مع كل هذا الوجوم الذي يخيّم علينا ؛ وصلَنا هدهد السعد لينقل الينا نبأ حصول " نادية مراد " العراقيّة السنجارية على جائزة قيمة من جوائز حقوق الانسان / جائزة الشاعر الرئيس فاتسلاف هافل، ومع انها لم تنل جائزة نوبل للسلام التي رشحت لها لكن اشراقتها الانسانية وفضْحها لدناءات الدواعش وسفالاتهم جعلها سفيرة للنوايا الحسنة واحتفي بها من قبل الامين العام للامم المتحدة بان كي مون قبل بضعة ايام اذ وضع قلادة سفيرة السلام على عنقها لتزيّن صدرها ويشيد ببطولتها في فضح الوحشية الداعشية التي ارغمت على العيش بينهم باعتبارها امرأة " وما ملكت ايمانكم " وبحضور شخصيات انسانية بارزة.
ولمن لايعرف ماهي سنجار منبت نادية ومهوى مسقط رأسها سأقول ذكرياتي عنها وعن طبائع أهلها فقد عشتُ فيها مايزيد عن السنة اواخر السبعينات من القرن الماضي وأحببت ساكنيها وتوطدت علاقتي مع كاهن القضاء الذي كان يحتفي بي كلما قصدته وحالما يعرف باني عازم على زيارة عائلتي خلسة في بغداد أراه يحمّلني هداياه التي لاانسى مذاقها ابدا من سلال التين الذي تزخر به بساتين القضاء على جانبي الشارع الرئيس فيها والذي يتم أرواؤه وسقيه من العيون والينابيع الكثيرة على السفح.
بعدها يُثقل حقيبتي بما لذّ وطاب من لبنها وأجبانها الشهية التي لم أذق اطيب منها مع اني عشت ايضا معظم ربوع اوروبا صانعة الالبان والاجبان ولم تنفع معه توسلاتي ان يخفف عبء متاعي بسبب المسافة البعيدة بين بغداد وسنجار في مواصلات بدائية قديمة وقتذاك والتي تزيد عن 500 كم.
كم كان هذا الكاهن الوديع الايزيدي ( معذرة فقد نسيت اسمه ) رحب الصدر واسع البال حتى وانا أناقشه وأفنّد رؤاه وأجادله وانا في اندفاع الشباب معتدّا بآرائي فأهجسه يتقبل شقوتي وتعنتي بتلك الرحابة التي لامثيل لها.
يومها كنت اتنقل من مكان الى اخر هربا من الملاحقات ويوصيني بالحيطة والحذر ويستقبلني بالرحب والسعة عند عودتي ويغطّي كل احتياجاتي بلا مقابل لمجرد إني موصى عليّ من زميل دراسة لي في الجامعة وهو ايضا من أشقّائنا من الطائفة الايزيدية وهو من اختار لي هذا المأوى سكنا هانئا آمنا في سنجار.
عرفت الكثير من سكان سنجار نخبتهم وعامّتهم لم يخدشني احد بكلمة او وصف غير لائق أنا الضعيف الغريب هناك الفاقد الحول والقوة والمنعة وكنت في بعض الاحيان ادخل بساتينهم وحدي للتنزه واقطف قليلا من ثمارهم حيث كانت هذه البساتين على جانبي الطريق الذي يشقّ المدينة خالية من الاسوار في معظمها.
لم تكن تعنيني عقائدهم بقدر ماكانت تعنيني طباعهم الانسانية الراقية وكرمهم الباذخ واحتفائهم بي وانا الرجل اللائذ بهم هربا من سطوة قوات الدرك التي كانت تلاحقني وكان لي في سنجار خير مأمن ومرتع.
تلك هي سنجار التي عرفتها عن كثب ردحا من الزمن مرعى طفولة ناديا مراد.
&وافر التهاني لها ولأهلها وشكرا لمواقفها الجليلة والجريئة، عسى ان يأتي اليوم الموعود لأكرر زيارتي لها وهي تتطهر تماما وتغسل أدران وقذارات من عبث بها ويعود بنوها وبناتها الى رحابها ويتلذذوا بحلاوة خيراتها ويرتووا بينابيعها.
حتما ستنتهي الضغائن وتضع الحروب أوزارها ويُنسى قادتها وعابثوها ومخرّبو إرث الشعوب ويرمون في مزبلة التاريخ حتى لو انتصروا ظاهرا ؛ فالحروب وأمراؤها سوف ينسون حتما وتطمر قذاراتهم ومفاسدهم نسياناً وإهمالا مثل زبَدٍ يذهب جفاءً لكن الاضاءات الإنسانية التي تتمثل فيها مثلما فعلت ناديا مراد والإشعاعات الإبداعية التي ترقى وتسمو بالنور والتألق تظلّ خالدة حتى لو انبثقت وخرجت من رحم الحرب وتستمرّ أغانيها صادحة أمدا طويلا.
هو ذا سرّ خلود الإبداع وبقاء الفنّ والجمال ونبل الاخلاق ولو كانت في الازمان المائلة والمعوجّة ومنها ايضا المواقف الإنسانية المشرّفة والدفاع عن حقوق المظلومين والمقهورين جراء الحروب وسفالاتها.
&
التعليقات