صالح القلاب

 لأن إسرائيل كانت تتحدث، رسمياً وجدياً، أنه بإمكان الفلسطينيين أن يقيموا «دولتهم» المنشودة في قطاع غزة وسيناء، وحيث بادرت منظمة التحرير الفلسطينية «الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني» إلى رفض هذا «العرض» الإسرائيلي جملة وتفصيلاً وقالت «إنه لا دولة في غزة ولا دولة بلا غزة»، فإنه لا بد من أن تراود الفلسطينيين ومعهم بعض العرب مخاوف كثيرة من أن اتجاه حركة «حماس» لتحويل حكومة الظل التابعة لها في «القطاع» إلى إدارة رسمية قد يكون خطوة أولى للأخذ بهذه الخطة الإسرائيلية.


ولعل ما عزز المزيد من المخاوف لدى حركة «فتح» ومنظمة التحرير أن مسؤولين في حركة «حماس» قد تحدثوا عن أن حركتهم بصدد إعداد «دراسة» لصياغة جديدة لإدارة قطاع غزة، وبالطبع من دون أنْ يشيروا إلى استعادة الوحدة الفلسطينية التي كانت قد أصيبت بالتشظي والانهيار، عندما نفذت حركة المقاومة الإسلامية انقلابها الشهير في عام 2006 على شركائها في السلطة الوطنية وانفردت بحكم هذا القطاع بدعم خارجي من إيران ومن نظام بشار الأسد، في فترة مبكرة، وأيضاً من بعض الدول العربية (الشقيقة)!!
والواضح أن هذا كله له علاقة بسيطرة ما يسمى التيار المتشدد الذي يمثله محمود الزهار، الذي يعتبر رجل إيران القوي في غزة، ويحيى السنوار الذي حل محل إسماعيل هنية وفقاً للانتخابات الأخيرة في رئاسة مكتب «القطاع»، فهذه المجموعة التي تعتبر نفسها المجموعة العسكرية المسيطرة على كتائب القسام «ترى أن حل الدولتين ساقط من يومه» وأنه لا فائدة إطلاقاً من العودة إلى صيغة ما قبل انقلاب عام 2006، وبالطبع فإن حركة «فتح» قد اعتبرت أن هذه الصيغة الجديدة التي تريدها حركة المقاومة الإسلامية لإدارة العمل الحكومي في غزة لا تخدم إلا مخططات دولة الاحتلال التي دأبت على السعي جاهدة لتكريس الانقسام الفلسطيني وجعله انفصالاً نهائياً «تمهيداً لإقامة الدولة الفلسطينية المنشودة في هذا الجزء الصغير من فلسطين والسيطرة الإسرائيلية الكاملة على الضفة الغربية».
وحقيقة أن إقامة الدولة الفلسطينية المنشودة في قطاع غزة وحده ليست جديدة على مسيرة العمل الفلسطيني الطويلة، والمفترض أنه لا يزال هناك من يذكر أن الحاج أمين الحسيني، رحمه الله، الذي كان يرأس الهيئة العربية العليا قد أقام في هذا القطاع في عام 1948 ما سمي «حكومة عموم فلسطين» برئاسة أحمد حلمي باشا، هذه الحكومة أو الدولة الوهمية التي كانت تابعة لمصر إبان الحكم الملكي والتي لم تحظ إلا باعتراف دول قليلة، وحيث كانت نهايتها الزوال عندما وضعت الجامعة العربية «القطاع» تحت الإدارة المصرية التي بقيت مستمرة ومتواصلة حتى احتلال عام 1967، وحيث، أيضاً، قد بادر الرئيس جمال عبد الناصر في عام 1959 إلى إغلاق مكاتب هذه الحكومة في القاهرة وبصورة نهائية.
كانت حركة «حماس»، التي أوجدها التنظيم العالمي لـ«الإخوان المسلمين» كذراع له في الساحة الفلسطينية، قد تأخرت عن مسيرة الكفاح المسلح الفلسطيني اثنين وعشرين عاماً وكان ظهورها الأول في قطاع غزة في ذروة انفجار انتفاضة عام 1987، التي أطلق عليها (أبو عمار) ثورة جنرالات أطفال الحجارة، وهنا فإن ما يؤكد أن هذه الحركة قد أُوجدت كبديل للثورة الفلسطينية التي كانت حركة «فتح» قد أعلنتها في عام 1965 وليس كرديف لها أنها بقيت ترفض الانضواء في إطار منظمة التحرير، التي كانت اعترفت بها قمة الرباط العربية في عام 1974 ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني، على مدى الثلاثين سنة الماضية.
لقد بقي (أبو عمار) يبذل محاولات دؤوبة لإدخال حركة «حماس» في إطار منظمة التحرير الفلسطينية وبخاصة بعدما بدأت عملية السلام، التي انتهت بتوقيع اتفاقيات أوسلو الشهيرة، لكن هذه الحركة استمرت بإغلاق كل الأبواب في وجهه، وذلك لأن القرار في هذا المجال لم يكن قرارها ولم يكن بالنسبة إليها قراراً فلسطينياً وإنما قرار التنظيم العالمي لـ«الإخوان المسلمين» الذي كان ولا يزال يقوده «الإخوان» المصريون وذلك رغم أنهم أصبحوا تنظيماً ممنوعاً ومطارداً في مصر وأصبحت قياداتهم العليا تعيش إما في السجون وإما في المنافي البعيدة.
لقد بقيت «حماس» منذ إنشائها في عام 1987 متخلفة في مسيرة الكفاح الفلسطيني اثنين وعشرين عاما، جزءاً من الإخوان المسلمين وكان ولاؤها لهؤلاء يتقدم على ولائها لفلسطين وهذا بقي متواصلاً ومستمراً إلى أن جاء القرار الذي كانت اتخذته قبل أيام عندما أعلنت انفصالها عن التنظيم العالمي الإخواني، لكن ورغم ذلك فإن هناك من يرى أن هذا «الطلاق» هو مجرد مناورة سياسية عابرة، وأن الهدف هو تحسين علاقاتها التي بقيت متوترة مع مصر منذ إطاحة الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي ووضعه مع كثير من القيادات الإخوانية في السجن.
هناك قاعدة «فقهية» بقي يتبعها الإخوان المسلمون، منذ نشأتهم في عام 1928 يتبعونها وحتى الآن، اسمها «التقية» التي تعني أن يعلن التنظيم غير ما يبطن، ولذلك فإن كثيرين من المتابعين يرون أن «طلاق» حركة «حماس» مع الإخوان هو مجرد مناورة سياسية هدفها تحسين العلاقات المتوترة مع مصر، خصوصاً أنه ليس بإمكانها إقامة دويلتها المنشودة في قطاع غزة وهي في صدام وعلى علاقات متوترة وسيئة مع القاهرة ومع نظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
لقد كان واضحاً أن هذه الحركة، التي لم تكن تعتبر نفسها حركة وطنية فلسطينية كـ«فتح» و«الجبهة الشعبية» و«الجبهة الديمقراطية»، عندما قامت بانقلابها الدموي على السلطة الوطنية وعلى منظمة التحرير في عام 2006 كانت تسعى لإقامة دويلتها الخاصة في قطاع غزة، وحقيقة أن هذه الدويلة قد أصبحت قائمة عملياً منذ ذلك الانقلاب الدموي، وأن العوامل المالية (رواتب الموظفين) هي التي أبقت على بعض خيوط العلاقات مع رام الله، وهي خيوط كانت ولا تزال أوهى من خيوط العنكبوت.
لقد أدركت حركة «حماس» معنى أن تقول إسرائيل «جادة» إنها ترفض حل الدولتين وإنها مع حل الدولة الواحدة ولكن في غزة و«سيناء»، والمقصود هنا هو ليس سيناء المصرية وإنما المناطق المتاخمة للقطاع التي كان الإسرائيليون قد عرضوا إمكانية تبادلها بأراض من الضفة الغربية، ولهذا فإن حركة المقاومة الإسلامية قد بادرت إلى اعتبار أن حل الدولتين هذا ساقط من يومه.
إن هذا هو ما بقيت «حماس» تريده وتسعى إليه منذ الإعلان عن نفسها في عام 1987، فهي بقيت ترفض الانضمام لمنظمة التحرير، وهي بقيت لا تعتبر نفسها لا تنظيماً فلسطينياً ولا حركة وطنية فلسطينية وإنما جزء من التنظيم العالمي لـ«الإخوان المسلمين» ولذلك ولهذا كله فقد كان انقلاب غزة في عام 2006، وقد كان انخراطها في بعض العمليات «الإرهابية» الإخوانية ضد مصر بعد انهيار نظام «الإخواني» محمد مرسي، ولذلك أيضاً فإن هناك كل هذا العداء لحل الدولتين ولقيام دولة فلسطين المستقلة على حدود الرابع من يونيو (حزيران) عام 1967 وكل هذا الرفض لكل هذه الإنجازات الدولية التي حققتها السلطة الوطنية، وأهمها اعتراف الأمم المتحدة بدولة فلسطينية تحت الاحتلال.
وهكذا وفي النهاية فإن الواضح أنَّ «حماس»، التي باتت تنتظر انهيار السلطة الوطنية وانهيار حركة «فتح» ومنظمة التحرير وهذا المشروع الوطني الفلسطيني كله، تريد هذه الدويلة التي تسعى لإنشائها في قطاع غزة وربما في بعض سيناء أولاً: كبؤرة للتنظيم العالمي لـ«الإخوان المسلمين» وثانياً: كقاعدة متقدمة لإيران على شواطئ البحر الأبيض المتوسط وفي هذه المنطقة الحساسة..