محمد الرميحي
منذ فترة ليست قصيرة بدأ كتاب ومفكرون يتحدثون عن «نقص المناعة في الديمقراطية الغربية» كما طبقها العالم، بدرجات مختلفة إبان القرن العشرين، وربما تعرضها للمرض الطويل. وصدرت كتب تحمل عناوين مثل «موت الديمقراطية» أو «احتضار الديمقراطية»،
ومثل تلك العناوين كانت تنقد الممارسات الديمقراطية كما تطورت في الغرب إلى حد الثمالة، وأن الناس ضاع صوتهم، وليس كما اعتقد مفكرو الديمقراطية الليبرالية أنها «حكم الشعب لنفسه»، بل تدخلت فيها مجموعة من العوامل المالية والإقناعية إلى أن حرفتها عن هدفها، إلا أنهم ينتهون بالقول إنه «لا يوجد خيار آخر للإنسانية لحكم نفسها إلا من ذلك الباب!». البعض كان يأخذ مؤشر النمو الاقتصادي ليقيس «انتفاع الناس بتلك الآلية» من عدم الانتفاع، فصار الأمر بعد تجربة ونمو الصين (دون آليات الديمقراطية الغربية) محل تساؤل أكبر، فالتي تحقق 10 في المائة من النمو سنوياً (في عدد من السنوات السابقة) تلفت أنظار المتابعين والمهتمين للمقارنة بين آليات الديمقراطية الغربية التي ظهر عليها الإعياء، وبدأ «وقودها التنموي يضعف»، وبين صعود الصين، أو حتى غيرها من دول شرق آسيا، التي تبنت ديمقراطية شكلية، إلى درجة أن تجربة سنغافورة كانت محط دراسة؛ لأن السنغافوريين في مرحلة فرغوا جزءاً من الحزب الحاكم ليمثل المعارضة، حفاظاً على الشكليات، ولما تقاعد الزعيم تم «انتخاب» ابنه! أي إنها ديمقراطية في ثوب شمولية محسنة! من هذا الباب قلب البعض نظرهم ليروا أن هناك «صنماً» بدأ ينصرف عنه الناس!
عادة يشار إلى الهند على أنها «أكبر ديمقراطية في العالم»، ولكنها أيضاً خاضت تجارب متعددة في التنمية من «اشتراكية» إلى «رأسمالية محسنة»، إلا أن تجربتها مع صناديق الانتخاب، رغم لمعانها، تمت تحت مظلة الانقسامات العرقية والطائفية والمناطقية وسطوة رأس المال في التأثير على صناديق الانتخاب ولا تزال!
النقاش حول «حدود الديمقراطية» بدأ يظهر من جديد مع موجة «الشعوبية» التي تجتاح أوروبا، ووصلت إلى الولايات المتحدة فيما عرف اليوم بـ«الحقائق البديلة»!، ثم تمددت إلى مناطق أخرى من العالم، وبرز سؤال هل «موافقة نصف المصوتين بقليل» على أي موضوع يطرح أو انتخابات تجرى، يعني أن يقوم «المنتصر بأخذ كل شيء» وترك لا شيء للمهزوم؟! وكيف يُحسب الثقل النوعي للنصف الآخر، الذي عارض أو حتى وصل به الأمر إلى أن لا يستخدم حقه في التصويت احتجاجاً! ماذا يبقى له من الوطن؟
ثلاثة أمثلة أمامنا تشكل ما يعرف اليوم بالحصول على «الأغلبية الخجولة»، الأول والأخير في الزمن هو ما حدث في تركيا الأسبوع الماضي، تكررت النسبة، أكثر قليلاً من 51 في المائة لصالح الإصلاحات، وقبلها استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أيضاً أكثر بقليل من 51 في المائة لصالح الخروج. أما اللافت فهو وصول السيد دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، الذي بسبب طريقة تنظيم «الديمقراطية الجفرسونية في أميركا» خسر في العدد الكلي للأصوات، أي أن غريمته في الانتخابات فازت بأغلبية جماهيرية، وفاز هو في حساب الهيئات الناخبة! وبالتالي فاز في الوصول إلى البيت الأبيض، المكان الذي يجري فيه تقرير الكثير من مصائر عالم اليوم! الأغلبية الخجولة تبقى مشكلة للحزب الحاكم، كما هي مشكلة للأحزاب الأخرى، وتترك توتراً مستديماً في الجسم الاجتماعي. معنوياً ليس للإدارة الفائزة قدرة على القول إنها تمثل «أغلبية» تتحدث باسمهم وتدافع عن مصالحهم، فهي تبقى مقيدة وغير مطلقة الصلاحية أدبياً على الأقل، إلا أن الأهم هو الانقسام المجتمعي الذي تخلفه الانتخابات أو الاستفتاءات ذات الأغلبية المحدودة، والتي تعطل من قدرة الدولة على القيام بما يتوجب عليها القيام به داخلياً وخارجياً من خلال توافق واسع. تيريزا ماي رئيسة وزراء بريطانيا تعرف أنها لا تستطيع أن تدخل في مفاوضات صعبة مع الاتحاد الأوروبي لتحديد شروط الخروج، ولها فقط أغلبية في البرلمان بـ17 صوتاً! فذهبت الأسبوع الماضي إلى الدعوة إلى انتخابات مبكرة، علها تحصل على أغلبية مريحة تمكنها من القول إنها تمثل مصالح جمهور واسع من المواطنين، وهي التي كانت تقول، حتى مؤخراً، إن الانتخابات العامة في بريطانيا لن تجري إلا في عام 2019!... في تركيا سوف تظل أصوات تتحدث عن «عدم إنصاف» لمجموعة الرافضين للإصلاحات، لأن الحزب الحاكم ومناصريه لم يحصلوا على تفويض مريح للقيام بما يرغبون القيام به من إصلاحات، والرئيس الأميركي سوف يرضخ في النهاية إلى أحد خيارين؛ إما تغيير جذري في سياساته التي انتخب على أساسها ويعارضها «نصف الشعب الأميركي» على الأقل، ويبحث عن هوامش مشتركة، أو قد يتصاعد التعنت ضد تلك السياسات، وتصبح تكلفة بقائه عالية سياسياً، أو على الأقل تحرمه من مدة رئاسية ثانية. المعركة في فرنسا ليست بعيدة عن «الانشقاق» النصفي للمجتمع بين يمين ويسار (كلاهما شعوبي). الضرر لا يتوقف في ضعف آليات الديمقراطية على التشرذم الداخلي ونتائجه الكارثية على تلك الشعوب، بل يتعداه إلى ضعف هيكلي مزمن في العلاقات الدولية؛ فبسبب ضيق هامش التفويض تقل شرعية الحكم، وتضغط على الأمن والسلام العالمي، لأن الحكومات الضعيفة داخلياً، لا تستطيع المساهمة في ضبط بوصلة السلام العالمي، ويصبح بعدها العالم في حالة سيولة، تظهر بثورها في الصراعات غير المنضبطة كما في منطقتنا، وسوف يعرض ذلك أمن الدول الصغيرة إلى الخطر؛ نتيجة ذلك الخلل الهيكلي في الحكم في دول المركز، وتلعب القوى الإقليمية في الأمن كما يحلو لها، كما تفعل إيران اليوم.
حتى الآن لا توجد وصفة تنقذ النظام البرلماني الليبرالي من أزمته، كما أن مفارقته بشكل نهائي لم يحن وقتها بعد، إلا أن بذور الخيارات الممكنة بدأت تظهر تباشيرها؛ منها ما تقوم به وسائل التواصل الاجتماعي الجديدة من دور في تشكيل وتوجيه الرأي العام في بلدان كثيرة. ليس غريباً أن يظل رئيس الولايات المتحدة يستخدم موقع التواصل الشخصي في التواصل مع جمهوره، كما أن المعركة الانتخابية في فرنسا تدور في كثير منها على وسائل التواصل الاجتماعي. من جانب آخر ظهرت قوة التجمعات المدنية (المجتمع المدني) الذي يضغط للتأثير ليس في نتائج الانتخابات فقط، بل وفي إثارة اللغط والاتهام لمن يرى أنه غير جدير بتمثيل الناس. في أكثر من مكان من العالم تلعب الأدوات الجديدة دوراً فاعلاً ومتعاظماً في توجيه الناس وتداول المعلومة وكثير منها مضلل، إلى درجة أن صار في مقدرة الدول الأخرى التدخل «السايبري، الإلكتروني» في نتائج انتخابات لدول أخرى، حدث مثل هذا الاتهام بالنسبة للانتخابات الأميركية الأخيرة، كما ظهر جزء منه في صيرورة الانتخابات الفرنسية المقبلة! هل نحن في مرحلة النهاية لما عرف بالديمقراطية الليبرالية التي طبقت في معظم سنوات القرن العشرين؟ قد يكون ذلك، فأمراضها بدأت تترك بثوراً على وجه المجتمعات، وتعرض العالم إلى مخاطر.
آخر الكلام
مع الانشغال بالقضايا المستجدة، يبدو أن الفضاء السياسي العربي في طريقه إلى نسيان المعضلة الأكبر، التي كثيراً ما سميناها «القضية المركزية». عميدة الأسيرات الفلسطينيات أفرج عنها الأسبوع الماضي بعد 15 عاماً من السجن! دون كثير اهتمام، فقط للمقارنة هي أقل سجناً ببضع سنوات من الراحل نيلسون مانديلا! عليك بحساب الفرق في التأثير!. . . .
التعليقات