غسان شربل
ماذا نفعل بالآخر الذي لا يشبهنا؟ الآخر المقيم وراء البحار أو في الحي المجاور أو المبنى نفسه. الآخر الوافد من تاريخ مغاير. يشرب من ينابيع غير ينابيعنا. وينام على تراث مختلف. ويقرأ في كتب أخرى. هل نستطيع التعايش معه في هذه القرية الكونية الصاخبة؟ وهل اختلافه يشكل تهديداً دائماً لنا؟ وهل الصدام به حتمي لأن المكان لا يتسع إلا للون واحد؟ وهل يجب أن تفصلنا عنه جدران الكراهية والحذر وخنادق التحسب لما هو أدهى؟
ماذا نفعل بالآخر المختلف؟ هل نقطع الشرايين التي تربطنا به؟ وهل نحمي هويتنا بالانكفاء إلى العزلة؟ وهل نستسلم لدعاة الخوف فنمهد لحروب حضارات وأديان وثقافات؟ وهل يؤثر المعتدلون السلامة فينسحبوا تاركين للمتطرفين فرصة الاستيلاء على الساحات والمنابر والعقول واقتياد الشبان إلى النحر والانتحار؟
في العقدين الأخيرين، كانت هذه الأسئلة مطروحة بإلحاح في عواصم العالم العربي والإسلامي. طُرحت غداة هجمات 11 سبتمبر (أيلول). وطُرحت مجدداً بعد استيلاء «داعش» على الموصل. وتُطرح كلما أدمى إرهابي مدينة قريبة أو بعيدة.
وأظهرت التجارب والأيام أن العالم العربي والإسلامي هو العدو الأول للإرهابيين والهدف الأول لهم، وأن استهداف الغرب كان يرمي إلى قطع صلات يعتقدون أنها تساهم في مساعدة الدول العربية والإسلامية على الوقوف في وجه العاصفة.
العالم العربي والإسلامي هو الهدف الأول للإرهابيين. لم تلحق «القاعدة» ضرراً بالغرب بالقدر الذي ألحقته ببلداننا. والأمر نفسه بالنسبة إلى «داعش». كان الغرض من إشعال خطوط التماس مع الغرب تسهيل التجنيد والاستقطاب والاستدراج للاستيلاء على العالم العربي والإسلامي.
ولا مبالغة في القول إننا في خضم حرب عالمية أطلقها الإرهاب المتستر بالدين. التفجيرات الدموية الجوالة رسخت هذا الانطباع. وجعلت الآخر يخاف أن يكون مستهدفاً، ليس فقط في أمنه واستقراره، بل أيضاً في حقه أن يكون مختلفاً. ثم أظهرت التجارب أن استهداف البرجين أدمى العالم العربي أكثر مما أدمى نيويورك، وأن ذبح الرهائن الغربيين أدمى العالم الإسلامي أكثر مما أدمى بلدان الرهائن.
وجدت الدول العربية والإسلامية نفسها محرجة. وجدت نفسها أحياناً متهمة. مصانع الإرهابيين تقيم في أرضها. وممارساتهم تلحق الأذى بأمنها واستقرارها ومصالحها. مقاتلون جوالون ينتهكون كل شيء. الحدود الدولية. ومبادئ التعايش. وجوهر التسامح الكامن في الأديان. ووجدت هذه الدول صعوبة في شرح نفسها. لدى الآخر أيضاً قوى تحاول الاصطياد في المشهد الصعب.
كان لا بد من اتخاذ قرارات جريئة. قرارات صعبة. كان لا بد من مغادرة المنطقة الرمادية. وتسمية الأشياء بأسمائها. كان لا بد من الانتقال من مرحلة الحرب على الإرهاب إلى مرحلة الحرب على التطرف نفسه. فثقافة التطرف هي الولادة التي تنجب المقاتلين الجوالين والانتحاريين.
وكان الأمر يحتاج إلى دولة تمتلك شرعية عميقة على الصعيدين العربي والإسلامي لتطلق الحرب على التطرف نفسه. وتحوّله بنداً ثابتاً في سياستيها الداخلية والخارجية. وممارسة يومية في المجتمع. والصحافي المتابع لقمم الرياض يدرك سريعاً أن المعركة ضد التطرف تشكل جوهر هذه القمم.
الحرب على التطرف وتعميق الجسور مع الآخر وتحويله شريكاً في الاستقرار والازدهار جوهر القمة السعودية - الأميركية. والأمر نفسه بالنسبة إلى القمة الخليجية - الأميركية. وكان الأمر شديد الوضوح في القمة العربية - الإسلامية - الأميركية.
ليس بسيطاً أن يتوافد زعماء العالم العربي والإسلامي للقاء الرئيس دونالد ترمب على أرض الرياض. المشهد غير مسبوق. للصورة معانٍ كثيرة. للمكان مغازيه ورسائله. كان مشهد ترمب مخاطباً الزعماء العرب والمسلمين استثنائياً فعلاً. كان مقدّراً أن يكون عهد هذا الرجل عهد الاضطراب الكبير في العلاقة مع العالم العربي والإسلامي. ثمة من التقط اللحظة المناسبة وتحرك. أعدّ الأوراق والأرقام والحجج وتقدم في الوقت المناسب. وهكذا انفتح الباب لانعقاد قمم الرياض.
الرجل الذي كان يخاطب الزعماء الحاضرين يأتي من تراث آخر. يشرب من ينابيع أخرى. لا فائدة نجنيها من تكريسه عدواً. ذلك يوقع بلداننا في فخ أهل التطرف. لا ضرورة أن يكون التطابق حاضراً. للدول مصالح وحسابات وقراءات. المهم بلورة مساحات مشتركة للقاء. بلداننا تحتاج إلى ما يملكه هذا الآخر من تقدم علمي وتكنولوجي لتلحق بالعصر وتنقذ اقتصاداتها. نحتاج أيضاً إلى شراكة مصالح تشجّعه على دور أكبر في تسويات عادلة لقضايا منطقتنا وبينها النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي.
يمكن القول إن الجسر الأول هو الحرب على التطرف. وانعقاد قمم الرياض أكد أن هذا القرار اُتخذ فعلاً وأن الحرب قد بدأت. من هذه الشراكة التي تبدد المخاوف والشكوك، يمكن الانطلاق إلى بناء علاقات اقتصادية وسياسية ودفاعية. ودائماً بحسابات المصالح، فالدول ليست جمعيات خيرية.
يأتي وقت يتحتم فيه عليك أن تختار. هذا يصدق على الأفراد والدول. للانتماء إلى المستقبل ثمن لا بد من دفعه. لا تستطيع دخول المستقبل وحدك. لا بدّ من شركاء. لا بدّ من الآخر. رسائل قمم الرياض بالغة الدلالات..
التعليقات