عادل درويش
خسرت رئيسة الوزراء تيريزا ماي رهان ذهابها إلى انتخابات مبكرة، وتتحمل بالدرجة الأولى الأخطاء التي أدت إلى خسارتها الأغلبية البرلمانية في مجلس العموم، لتعود بحكومة أقلية تضطر فيها إلى محالفة الحزب الوحدوي الديمقراطي لآيرلندا الشمالية، وستضطر لتقديم تنازلات للحليف ستكلفها باهظا، سياسيا واقتصاديا.
عشية الانتخابات تمتع حزبها المحافظ بأغلبية عددية 17 مقعدا، وأغلبية عملية أو فاعلة تقدر بـ27 مقعدا؛ وهي غير الأغلبية المطلقة.
مجلس العموم يتكون من 650 مقعدا تمثل 650 دائرة انتخابية.
الأغلبية العددية هي مجموع مقاعد الحزب الحاكم. المطلقة هي نصف عدد المقاعد زائد واحد عند التصويت.
رئيس البرلمان، محايد لا يشارك في التصويت، فعدد المقاعد فعليا 649، يعني الأغلبية المطلقة ليست 326، وإنما 325.
النواب الجمهوريون من آيرلندا الشمالية لا يحتلون المقاعد، مما خفض الأغلبية المطلقة في البرلمان الماضي إلى 323 (النصف زائد واحد).
الأغلبية الفاعلة هي عدد النواب (بصرف النظر عن انتمائهم الحزبي) الذين تنجح الحكومة في توجيههم إلى ردهة نعم. فالتصويت في مجلس العموم ليس برفع الأيدي بل بدخول النواب إلى ردهتي «نعم» و«لا»، ويحسب عدد الرؤوس في كل ردهة.
هناك نواب مستقلون وأحزاب صغيرة يصوتون مع الحكومة ورغم جلوسهم في مقاعد المعارضة فمجموع أصواتهم مع نواب الحكومة يكون ما يعرف بالأغلبية الفاعلة.
انتخابات الخميس جاءت بـ318 للمحافظين (فعليا 317 لأن رئيس البرلمان لا يصوت)، وعشرة مقاعد للحزب الوحدوي الديمقراطي الآيرلندي. أي 327 مقعدا في حقيبة يد السيدة ماي. الجمهوريون شين فين زادوا مقاعدهم إلى سبعة، مما أنقص الأغلبية المطلقة إلى 322 صوتا. فأصبحت الأغلبية الفاعلة لحكومة ماي ستة مقاعد، أي ربع ما كانت عليه قبل الانتخابات؛ وهذا يفسر غضب نواب المحافظين عليها.
خلال تغطيتي كصحافي لثلاثة عشر من الانتخابات العامة لم أرَ نتائج محيرة كهذه.
فمثلا كسب المحافظون عشرين مقعدا جديدا في دوائر كانت مع العمال والقوميين الاسكوتلنديين والديمقراطيين الأحرار، بينما خسروا 12 مقعدا، بعضها في دوائر كانت حكرا على المحافظين لأجيال كدائرة كينسينغتون في لندن وكسبها العمال بفارق 20 صوتا فقط.
الزعيمة المحافظة ماي ارتكبت أخطاء شخصية، وحسابية وسياسية ستكلفها مستقبلها السياسي عاجلا أو آجلا (لولا القلق على سمعة بريطانيا في الأسواق المالية والتجارية العالمية خشية عدم الاستقرار السياسي، لكان رأسها على صينية فضية اليوم في المكتب السياسي للحزب، لكن المحافظين عادة يقدمون المصلحة الوطنية على الصراع الحزبي).
السيدة ماي، وهي خجولة كتومة أقل انفتاحا على المجتمع من سابقيها، ولا تجيد التعامل مع أسئلة التحدي الصحافية في المقابلات، التجأت لأسلوب غريب على بريطانيا. قلدت توني بلير في اختيار فريقها في دائرة القرار الضيقة (اثنان للعلاقات العامة والاتصالات، والثالث لخطة الدعاية وشعاراتها الحزبية).
الفريق صدق اتجاهات رأي عام تنسجها الصحافة من خيوط تتبادلها فقاعة الصحافة والسياسة ونسميها مجازا «قرية وستمنستر».
حزب استقلال المملكة المتحدة يوكيب كان حصل على 13 في المائة من الأصوات تمثل ثلاثة ونصف مليون ناخب في انتخابات 2015، انتهت مهمته، أمام الرأي العام، بفوز الخروجيين في استفتاء عضوية الاتحاد الأوروبي.
ظنت السيدة ماي أن التلويح براية البريكست سيوجه أصوات حزب الاستقلال نحو المحافظين.
لكن معظم الأصوات في المناطق الصناعية الشمالية ذهبت للعمال وليس للمحافظين، فهم أصلا من المصوتين للعمال وكان تصويتهم لحزب الاستقلال إما احتجاجا على التوازن الراهن، أو لضمان الانفصال عن بروكسل حماية لأرزاقهم من العمالة الأجنبية الوافدة.
الزعيم العمالي جيريمي كوربين، وهو متمرد احتجاجي يساري من خارج المؤسسة التي لا يثق بها الناس، كان مثل دونالد ترمب في أميركا لكنه يأتي من اتجاه آخر: الاشتراكية اليسارية شبه الفوضوية (مثل مشاهد الثورة الفرنسية وهجوم العامة على قصور الإقطاعيين للاستيلاء على مقتنياتها بلا خطة لتوفير الغذاء والحاجات الأساسية بعد أن تخمد الثورة). مثلا وعد كوربين بإلغاء المصروفات الجامعية وشطب ديون الخريجين الجدد (لم يسأل الشباب المتحمس عن مصدر 35 مليار جنيه لدعم المشروع).
كوربين له أسلوب فعال في حشد المظاهرات (عرفته أثناء الدراسة الجامعية نصف قرن مضى، وظل بارعا في قيادة المظاهرات وحشد الجماهير). بمهارة ترمب في مخاطبة الجماهير، أعلن كوربين تمسكه بنتائج الاستفتاء والعمل على تطبيقه بالالتزام بالخروج من الاتحاد الأوروبي، وهذا ما جذب أكثر من نصف أصوات حزب الاستقلال إليه. كوربين أيضا حشد الشباب وهم مثاليون خاصة الذين يصوتون لأول مرة (18 – 23 عاما).
اعتمد كوربين على منظمة يسارية ماركسية اسمها الزخم momentum دفعوا مليونا ونصف المليون شاب للتسجيل في جداول الانتخابات في مناطق دراساتهم الجامعية وليس في مناطق أسرهم. وبعكس كوربين، لم يتضمن برنامج المحافظين ما يجذب الشباب الذين أقنعهم كوربين بمثاليته، وهذا لم يمنح العمال قرابة مليون صوت آخر فحسب، بل وفر لكوربين جيشا من المتطوعين بلا أجر لنشر دعايته الانتخابية. وفاز العمال بدوائر المدن الجامعية على حساب المحافظين.
الخطأ السياسي والشخصي للسيدة ماي أنها ركزت على شخصيتها كزعيمة قوية يمكن أن تتصدى لبروكسل، مقابل الشخصية الضعيفة التي تتلاعب بها الاتحادات العمالية. الطريف أن الذي لصق هذه الصفات بكوربين هم زملاؤه من نواب العمال في وستمنستر، الذين أرادوا زعيما من التيار البليري. لكن فريق السيدة ماي فاته أن صحافة وستمنستر لم تعد تحتكر فلتر توصيل المعلومات للناخب، الذي يتابع على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي ما يفعله الساسة والسياسات نفسها مباشرة حيث يستخدم الساسة التويتر كتلغراف مباشر للناخب.
هجوم السيدة ماي الشخصي المستمر على كوربين، أظهره أمام الرأي العام ضعيفا غير قادر على الدفاع عن نفسه أمام قوى جبارة.
القول الإنجليزي championing the underdog «انتصر للضعيف» هو جزء من الشخصية البريطانية، الانحياز للطرف الأضعف في معركة غير متكافئة، أي التعاطف مع كوربين بعد شخصنة السيدة ماي المعركة الانتخابية. بل إن المحافظين لم يرفعوا شعاراتهم المعهودة للناخب ونجاح برنامجهم الاقتصادي، بل رفعوا صور وشعارات الزعيمة ماي.
بريطانيا اخترعت الديمقراطية التعددية الحزبية بشكلها الحديث وطورتها منذ توقيع المغنا كارتا، وظهور ماي بشكل زعيم فردي يركز على شخصيتها هو خروج على التقاليد المعروفة للناخب. وقرر العقل الجماعي للأمة معاقبتها على التجرؤ على مناقضة روح المغنا كارتا المغروسة في العقل الباطن البريطاني.
التعليقات