عادل درويش 

بضع ملاحظات حول كارثة حريق البرج السكني «غرينفيل تور» في شمال كنسينغتون حول التصرفات الإنسانية فرديا وجماعيا.
البرج السكني هو ظاهرة جديدة على بريطانيا. أولاها «the lawn»، وبُني عام 1951 في هارلو، ثلاثون ميلا شمال شرقي لندن.
كانت حلا سريعا لأزمة الإسكان بعد الحرب العالمية الثانية ووفود المهاجرين من المستعمرات القديمة.
في البلاد اليوم أربعة آلاف مثل برج «غرينفيل» الذي وقعت فيه الكارثة.
الغالبية الساحقة تنتقد هذه الأبراج كوسيلة إسكان. فقد استغرق رجال الإطفاء يومين لإخماد الحريق، لأن خراطيم المياه لا تصل إلى أكثر من ثلث ارتفاع برج من 28 طابقا.
لكنها أيضا تناقض الطبيعة الاجتماعية والثقافية للبريطانيين، ولن تجد مهندسا واحدا من مصممي هذه الأبراج يقطن في أحدها.
أبراج الإسكان الاجتماعي، رخيصة الإيجار، وكثير من سكانها لا يدفعونه، بل يتلقون إعانة الشؤون الاجتماعية.
وربما لاحظ القراء في نشرات التلفزيون أن عددا كبيرا منهم من المهاجرين، سواء كانوا من داكني البشرة أو من بلدان أوروبا الشرقية.
الفارق الطبقي واضح بين سكان برج «غرينفيل» والمناطق المحيطة من المساكن التقليدية التي تسكنها أسرة واحدة، وثمن الواحد منها بين الثلاثة والعشرة ملايين جنيه (مسكن رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون، ووزير الزراعة، ووزير المالية، ووزير العدل، على بعد أقل من ربع كيلومتر)، وهي من الملامح الاجتماعية للندن ومدن الازدهار الاقتصادي كأدنبره، ويورك، وبرايتون، ومانشستر، حيث تتباين مستويات المعيشة إلى حد كبير.
الفوارق الطبقية وحدها لا تفسر ازدحام المهاجرين الذين ذكرتهم في هذه الأبراج، بل الأسباب ثقافية واجتماعية وتاريخية.
السكن في هذه الأبراج خارج الثقافة البشرية التاريخية في بريطانيا. فرسام كاريكاتير يعبر عن المزاج الشعبي سيصور جارتين تثرثران عبر سياج الحديقة الخلفية أو تنشران الغسيل في الحوش الخلفي، ويفصلهما سياج ارتفاعه متر ونصف المتر. والقول الإنجليزي المجازي عن التقرب من بلد آخر أو مصالحة سياسية بين حكومتين «إصلاح السياج» مثال يعود إلى القرن السابع عشر، والتوسع في مناطق العمران ببناء البيوت متجاورة، والفاصل بين الحديقتين هو سياج. والخلاف حول من يدفع ثمن إصلاح السياج هو أصل القول، أي المشاركة في إصلاح السياج هي علامة على التعاون.
ورغم بحثي لم أجد أمثلة وأقوالا دخلت قاموس المفردات اليومية البريطانية اشتقت من السكن في هذه الأبراج بعد ستة عقود من بنائها.
وجدير بالذكر أن هذه الأبراج تبنيها البلديات المحلية، ولا شأن للحكومة المركزية بها. فالحكومة المركزية في وستمنستر تصدر قوانين تنظم الإسكان والمباني والتمويل ولوائح الأمن والسلامة فيها، أما السياسة نفسها وإدارة الأبراج ومن يسكن فيها فهي من اختصاص البلديات المحلية، ولذا فإن صاحب البرج المحترق أو صاحب العمارة ليس مقاولا جشعا يستغل حاجة المواطن الفقير للإسكان، بل بلدية كنسينغتون وتشيلسي التي تدعم هذا السكن بسخاء من الضرائب المحلية.
وعندما يعرض مكتب الإسكان في البلدية المحلية شقة خالية في هذه الأبراج على أسرة مسجلة في كشف الحاجة الاجتماعية للإسكان المدعوم، فإن بعض الأسر البريطانية ترفض العرض، لأنها لا تناسب الثقافة العامة المتوارثة في العقل الجماعي البريطاني. الأسرة البريطانية تفضل الانتظار حتى تتاح فرصة أخرى في مسكن أصغر حجما، لكن له حوش أو حديقة أو في مبنى لا يزيد على ثلاثة طوابق، وأكثرها يتحمل مصاريف الانتقال والسفر إلى الضواحي، مفضلا السكن في مبنى تقليدي من الطوب والخشب والقش المضغوط على شقة أكثر اتساعا في هذه الأبراج.
أما القادمون من بلدان العالم الثالث المزدحمة بمدن معظمها من العشوائيات، أو شبوا في عمارات شاهقة جعلت الشوارع مثل الأزقة الضيقة، فتعتبر هذه الأبراج، بالمقارنة، أفضل مما خبروه في بلدانهم الأصلية، خصوصا أن المنظر منها بانورامي مشرق، لأنها مبنية في فضاء متسع وليس عشوائيا في شارع عرضه عشرة أمتار.
أما مهاجرو بلدان الكتلة الشيوعية (التي استورد المعماريون الإنجليز الفكرة منها) فهم عاشوا أصلا في أبراج مماثلة مألوفة لثقافتهم الإسكانية.
الملاحظ أن كثيرا من المهاجرين، حتى الذين لم يندمجوا ثقافيا في بريطانيا خصوصا المسلمين، تشبعوا بالروح البريطانية في التعاون العفوي، وأيضا في سرعة النهوض من العثرة مثلما تبين في الأيام الماضية.
منذ شروق شمس الأربعاء والحريق لا يزال مشتعلا. ظهرت الروح البريطانية في التعاون، وتدفق المتطوعون عفويا بلا نداء من مسؤول أو منظمة. فتحت الكنائس المحلية والمعابد اليهودية ومن الديانات الأخرى أبوابها.
المسؤولون عن المسجد المحلي المجاور حملوا كل ما لديهم تبرعاً وأقاموا طعام الإفطار للصائمين. أشخاص عاديون تبرعوا بكل ما لديهم من ملابس وأطعمة؛ لدرجة أنه بعد ظهر الجمعة وجهت مراكز الإعانة نداء بوقف التبرع العيني والاكتفاء بالتبرع المادي، خصوصا أن كل المطاعم والمقاهي المحلية فتحت أبوابها لمن يريد مجانا.
وهنا أقف عند بعض نماذج الطبيعة البشرية.
بعض المتطوعين للمساعدة، ساروا أميالا على أقدامهم، لأنهم آثروا التبرع بثمن تذكرة المواصلات على ركوبها.
تلميذة في السادسة عشرة احترقت شقتها ونامت أربع ساعات فقط في ركن في الكنيسة مع اللاجئين من الحريق ثم توجهت لأداء امتحان مادة الكيمياء في مدرستها في الثامنة صباحا بإصرار على النجاح.
بائع الخضراوات الذي تعرض لحروق لإنقاذ كلبيه الأليفين، ثم عاد مرة أخرى إلى المبنى المحترق لمساعدة الجيران على الخروج متعرضا لحروق أخرى.
قارن ذلك باستغلال التيار اليساري وجناح فوضوي يعرف بحركة الزخم «مومنتم»، الكارثة لتسيير مظاهرات (قادها محترفو إثارة المتاعب السياسية ولا يسكن أي منهم المنطقة) لاحتلال مبنى البلدية، ومسيرة إلى وستمنستر تطالب رئيسة الوزراء تيريزا ماي بالاستقالة.
ورغم أن المباني تتبع البلدية المحلية وليست حكومة ماي، فالانتقاد أنها اكتفت بزيارة المصابين في المستشفى، ولقائها قبلها فرق الإنقاذ في المكان، لمعرفة ما يحتاجونه، وتوفير دعم خمسة ملايين جنيه فوري لمن فقدوا ممتلكاتهم، وإجراء تحقيق قضائي لتحديد أسباب الكارثة لتجنبها مستقبلا والتفتيش الفوري على الأبراج المشابهة.
الانتقاد في «بي بي سي» والصحافة اليسارية؛ أنها لم تظهر رد فعل عاطفيا مثل الزعيم العمالي الشعبوي جيريمي كوربن الذي التقطت الصور له وهو يحتضن الناجين من الحادث ويواسيهم بالقول لا الفعل. لم يقدم لهم شيئا أو يعرض هو وزملاؤه من الساسة الاشتراكيين عليهم استضافة أي من الأسر التي احترقت شققها في بيوتهم التي لا يقل ثمن الواحد منها عن مليونين من الجنيهات!