عبد الله القفاري

الطائفية ليست قدراً مقدوراً.. فقد عاشت المنطقة دهراً بعيدة عن جنون الطائفية واضطراباتها بل كانت السمة الكبرى الصراع حول الهوية القومية وتأكيد معنى العروبة الجامعة، وحراكاً من أجل حقوق مواطنة تسع الجميع مهما تعددت مذاهبهم وطوائفهم..

هناك أكثر من خمسة وأربعين عاماً تفصلنا عن هذا المشهد. إنها الدمام، حيث لا تكاد ترى او تسمع أو تشعر بوجود شيء اسمه الطائفية. نعم، هناك مواطنون تجمعهم الجيرة السكن، وزمالة دراسة، ورفقة العمل.. إلا أنه لم يكن الانتماء الطائفي مؤثراً أو مهيمناً أو موجهاً لصناعة العزلة بين سكان منطقة تموج بأطياف متعددة المنابت والحضور والتكوين.

عرف لأول مرة، وهو دون العاشرة طريقه إلى القطيف وسيهات وصفوى. ورأى لأول مرة قلعة القطيف وازقتها ومقاهيها القديمة.. وإذا استعاد الصورة اليوم فكأنه يرى خاناً عراقياً في قلب بغداد أو البصرة.

أما لماذا وصل هناك في هذه السن، فلم يكن أمرا مقصودا بذاته.. إنه برفقة والده الذي كان عليه ان يحصل ديونا متراكمة من بيع الاغنام لمشترين وعملاء كالسيد حسن والسيد عباس وغيرهما. هذه الرفقة، منحته صورا لازالت الذاكرة تختزنها..

في مزرعته بصفوى، كان احتفاء السيد حسن بوالده كبيرا، وكان بارعا في امتصاص الغضب من تأخير السداد.. أما السيد عباس فقد سافر للبصرة ولم يعد، بعد ان تراكمت الديون على كاهله..

ولم يكن في وارد تلك المعاملات أن يتهم المرء في دينه أو مذهبه أو طائفته.. ولم تكن تمنع تلك العلاقات بين دائن ومدين أن يظل هناك قدر من الاحترام بين الطرفين.. ومعالجة الأمور مهما توترت بعيدا عن اسقاطات الطائفية التي استحكمت فيما بعد إلى مشهد نقاسي اليوم آثاره.

أما المرة الأولى التي تسرب إلى رأسه أن ثمة اختلافاً في الهوية الدينية المذهبية.. فهو يبدأ من سوق السمك في الدمام، فقد كان الجالبون والعاملون في تجارة وبيع الأسماك يأتون من القطيف.. ولم يكن ثمة عمال في ذلك السوق سوى أهل البلد وابنائهم.. وفي احدى المرات وجد السوق مغلقا، فعاد ادراجه مع أبيه وهو يتساءل لماذا السوق مغلق.. ليأتي الجواب بلا تفاصيل اليوم عاشوراء (العاشر من محرم)!! دون تفاصيل.. إلا انها كافية فيما بعد لإثارة أكثر من سؤال.

ومما يطوف بالذاكرة أن والده كان يثق بحسين الكاتب - هكذا يدعوه - وفي وقت عز فيه توفر كاتب عقود متمرس كان يرسله لاحضاره للدار. يخرج حسين مرتديا ثوبه الابيض وغترته البيضاء التي يلفها على عنقه ومعه حقيبة صغيرة ليركب دراجته الهوائية، وهو يسابقه على أقدامه إلى منزلهم.. وهناك يخرج القلم الحبر والدواة والورق المسطر ليخط وثيقة بيع وشراء، أما التوقيع فيستعاض عنه ببصمة إبهام يبلل بحبر اسود على منديل حسين الكاتب.

تلك هي المشاهد الأولى.. لا غرس لوعي طائفي، ولا حضور لجفاء وخصومة التاريخ، ولا قلق من التعامل بكثر من المودة مع مواطنين يجمعهم وطن ومصالح وكيان.

وفي مرحلة أخرى، كانت ثانوية الدمام الوحيدة تجمع ذلك الطيف الوطني تحت سقف واحد.. فلم تكن العلاقة سوى سلام واحسان.. وكان الانتماء العروبي طاغيا على ما عداه.. واتذكر كيف كان زميلنا "رضا" يأتي مبكرا ليكتب شعارات سياسية تشجب وتدين توجهات الرئيس المصري الراحل انور السادات للصلح مع اسرائيل في عام 1977.

إلا أن الزلزال السياسي الكبير الذي حدث في ايران عام 1979.. وترتب عليه قيام الجمهورية الاسلامية الايرانية بقيادة الخميني.. أخذ يلقى بظلاله الثقيلة، وأثّر كثيرا فيما بعد في توجهات وقراءات وانحيازات الطائفة ليقابله اصطفاف آخر.. لتظهر وتتكشف فيما بعد إفرازات صناعة الطائفية.. واستدعاء التاريخ المثخن، وتوتير المشهد العام، وعزل القوى الوطنية الخيرة التي صارت تغرد خارج السرب في أتون الصراع الذي كرسته ودعمته ايران المذهبية في المنطقة.. وردود الافعال لجيل جديد تشرب وعي الصراع قبل ان يعيش ويعايش وعي التعايش والبحث في المشتركات والانحياز لفكرة الوطن والمواطنية.

واللافت ان هذا حدث بسرعة شديدة، فعندما عاد في 1980 للدمام بعد غياب عام.. كانت اشياء كثيرة تغيرت..

زملاء الدراسة الثانوية تغيرت ملامحهم الثقافية واهتماماتهم.. ثمة اصطفاف واضح وانحياز مصنوع.. بدت غريبة هذه الاجواء التي وجد نفسه فيها بعد عام تقريبا.. وقد كان لافتا أن يجد على الارصفة كتاب " وجاء دور المجوس" وكُتب "احسان الهي ظهير" وغيرها.. من الكتب التي اتسع نطاق توزيعها مع اشرطة الكاسيت التي توسع نطاق شعبيتها ونجومها من دعاة ووعاظ تحولوا إلى المشاركة في تفخيخ الوضع المتوتر أصلا.. ولم يكن الطرف الآخر بريئاً، فقد كان لديه من ينفخ في ادبيات الصراع بنجومه الجدد المعممين. الصراع السياسي أسهم في إعادة انتاج الطائفية وتعميق شروخها واعادة بناء ثقافة مجتمعها.

الطائفية ليست قدرا مقدورا.. فقد عاشت المنطقة دهرا بعيدة عن جنون الطائفية واضطراباتها بل كانت السمة الكبرى الصراع حول الهوية القومية وتأكيد معنى العروبة الجامعة، وحراكا من أجل حقوق مواطنة تسع الجميع مهما تعددت مذاهبهم وطوائفهم.. ولم تكن لتطل الطائفية برأسها وتكشر عن أنيابها إلا من خلال صناعة مقصودة تستعيد الطائفية وتعمق وعيها ليسهل عليها اختراق واحراق مجتمعاتها.