يوسف مكي
منذ القدم، احتدم الصراع بين الفلاسفة والمؤرخين حول صناعة التاريخ، فقال بعضهم إنه توصيف لما لدينا من معلومات عن حياة الإنسان، بمعنى شموله لما نعرف، وما نعرف شيئاً عنه لا يتجاوز سبعة آلاف عام من عمر هذا الكوكب، الذي يتجاوز ملايين السنين، وهذا بحد ذاته تعبير عن نسبية المعرفة. إن ذلك يحمل أيضاً معنى متضمناً عجز الإنسان حتى اللحظة عن معرفة تاريخه.
قال البعض الآخر؛ إن التاريخ هو تعبير عن صعود قوى اجتماعية جديدة وهبوط أخرى، وإن الذي يحكمه هو التطور الاجتماعي، والصراع من أجل البقاء. وقد وصف بعضهم التاريخ بأنه رصد للحركة، لكن الفيلسوف الألماني جورج هيغل خالف ذلك، موضحاً أن التاريخ يقوم على أكتاف رجال عظام. ويتفق فيلسوف ألماني آخر هو ماكس فيبر مع هيغل، في هذه النظرة فيركز على دور القائد التاريخي، المتمتع بقوة جاذبيته، معتبراً بسمارك، موحد ألمانيا، أهم صنّاع التاريخ الحديث. لكنه لا يتناسى دور القبيلة، في مرحلة تاريخية أولية، مع تقرير بأن قمة التاريخ هي سيادة العقلية القانونية.
واقع الحال؛ إن معظم نظريات السياسة والاجتماع، تشير إلى دور الفرد. وربما اعتبرت نظرة أنطونيو غرامشي من أهم النظريات في هذا السياق.
في الموروث العربي، لكل زمن رجاله، بمعنى أن طبيعة المرحلة هي التي تحدد خصائص القادة وليس العكس. والزمن هنا ليس حالة مجردة. فالحياة المعتادة، خارج الأزمة، ليست بحاجة لأشخاص من نوع استثنائي، إذ ليس هناك ما يستدعي حضور القائد التاريخي. إن لحظة التحول والغليان والصخب هي التي تنجب أبطالها وتحدد مواصفاتهم.
ذلك يعني أن نتناول مرحلة انتقال تاريخي معينة، بالقراءة والتحليل، تستتبع بالضرورة كتابة سيرة أبطال بعينهم أسهموا في صياغة مآلاتها، وتركوا بصمات كثيفة منحتها هويتها. إن القائد يؤكد قوة حضوره بالأدوار التي يؤديها، مستجيباً لنداء التاريخ والضمير. وبالقدر الذي تكون فيه الأزمة كبيرة ومتشعبة بالقدر الذي يتعدد فيه وجود القادة التاريخيين. التاريخ الإنساني لا يحتفظ في ذاكرته سوى بهؤلاء الأشخاص الاستثنائيين.
لكن هذا الواقع، لم يلغ السجال، القديم الجديد، حول دور الفرد في التاريخ. فهناك نظريات لا تزال تعتبر الفرد نتاجاً لمرحلة تاريخية، ولقوى اجتماعية مؤثرة تدعمه وتؤثر في سياساته. بل إن بعض النظريات يرفض أن يمنح الفرد، أي دور حقيقي خارج الجماعة. إنه يستمد قوته وحضوره، من خلال الشرعية التي يمنحها له شعبه. ومن غير هذه الشرعية، لا يكون بمقدوره تقديم أي شيء، أو التأثير في الأحداث التي تجري من حوله. ويستخدم للتدليل على ذلك نظريات التطور الاجتماعي.
لكن آخرين، يرفضون مثل هذا القول، ويشيرون إلى قادة بعينهم للتأكيد على دور الفرد في صناعة التاريخ. يستدلون على سبيل المثال، بدور القادة السياسيين والعسكريين، الذين برزوا أثناء الحرب العالمية الثانية، من أمثال الرئيس الأمريكي روزفلت، ورئيس الحكومة البريطانية تشرشل، وقائد المقاومة الفرنسية، ورئيس فرنسا لاحقاً، ديغول، وقادة عسكريين مثل كرومل ومونتغمري. وتستحضر في هذا السياق أسماء نابليون وستالين. كما يشار إلى دور لينين، في صناعة الاتحاد السوفييتي، ولدينا في الوطن العربي، أسماء كثيرة، يصعب حصرها في هذه العجالة.
في العصر الحديث، برزت الصورة، مجسدة بقوة حضور القادة الكبار. وقد برز هذا الدور بوضوح بعد بروز الشاشة الفضية، خلال العقود الخمسة الأخيرة. وكلما تطورت صناعة التلفزة وتوسعت آفاق استخداماتها، وتضاعف عدد مشاهديها، تطور أكثر فأكثر، دور الكاريزما في صناعة القائد.
في الوطن العربي، كان للصورة حضورها القوي أثناء الحروب العربية مع الكيان الصهيوني، كما هو الحال في معركة العبور خلال حرب أكتوبر/ تشرين الأول العام 1973. وكان لها حضور أيضاً في احتلال أمريكا للعراق وأفغانستان. فتقهقر الجنود العراقيين والأفغان أمام قوة النيران الأمريكية، كان عاملاً رئيسيّاً في الحرب النفسية التي مكّنت قوات الاحتلال من تحقيق أهدافها بسرعة قصوى.
ولعل الكثير منا، لا يزال يستحضر صورة الطفل الفلسطيني الشهيد محمد الدرة، مستقبلاً رصاص الجنود الصهاينة، وهو في حضن والده. هذه الصورة كانت من العلامات البارزة في انتفاضة الأقصى. لقد اقتنص أحد المصورين لحظة إطلاق النار على الشهيد، فالتقط الصورة، وعممت في الفضائيات كاشفة وحشية الكيان الصهيوني الغاصب. لكن واقع الوحشية «الإسرائيلية» هو أكثر رعباً وقسوة من تلك الصورة. لقد تمثّل هذه الوحشية، في بعض صورها محاصرة مخيم جنين، ومنع الدواء والغذاء عن سكانه، وحملة إبادة بحق الأطفال والنساء بالمخيم. لكن الصورة لم تكن حاضرة، ومع غياب الصورة غابت القصة الكاملة للفاجعة.
وأخيراً، مشهد انتحار البوعزيزي في تونس بحرق نفسه احتجاجاً على الأوضاع الاجتماعية المتردية، وعلى المهانة التي تلقاها من شرطية منعته من ممارسة مهنته بائع خضراوات على عربة متنقلة، وقد اعتبرت هذه الحادثة الشرارة التي فجّرت الثورة التونسية. ترى كم فرداً انتحر في عدد من الأقطار العربية، وفي العالم قبل وبعد حادثة البوعزيزي، من دون أن يترك ذلك أي أثر، ومن غير أن نتمكن حتى من استحضار أسمائهم. إنها إذاً اتحاد اللحظة التاريخية، والصورة في صناعة الحدث والرمز، لتؤكد مجدداً أن لكل زمن رجاله، ولتؤكد دور اللحظة في صناعة القائد التاريخي.
التعليقات