محمد السعيدي
العلمانية كما تصلح أن تكون سببا لحرية التعبير لكونها تفصل الدين عن الحياة، فهي تصلح كذلك لأن تكون سبباً للتضييق على التعبير لكونها لا تريد أن يكون للدين أي تأثير على الحياة..
السبر والتقسيم، والدوران، والطرد والعكس، من المسالك التي يتعرف من خلالها الباحث على علل الأشياء ومسبباتها، وحين ننسب مُسَبّبا إلى سبب أو علة إلى معلول دون أن تكون تلك النسبة نتيجة لاستخدام هذه المسالك أو أحدها فإن الحكم الناتج لا يعدو كونه افتراضا، والقيمة العلمية الحاصلة منه لا تزيد عن كونها وهما، أو شكا، والوهم هو الإدراك المرجوح والشك هو الإدراك المساوي، وكلا نوعي الإدراك هذين يمكن أن يُتّخذ منهما منطلق للبحث العلمي لكن من المحال الاستناد إليهما كمحصلة نهائية واعتبارهما نتيجة علمية.
وحديثا يبدو لي أن كثيرا، إن لم نقل أكثر الطروحات الفكرية في بلادنا والتي تصادم واقعنا ومألوفنا مبنية على افتراضات من هذا النوع، وليس على دراسة فاحصة كما في النوع الأول، ولذلك فهي لا تعدو كونها انطباعات شخصية، لكن المؤسف هو ضخامة الترويج لها وكأنها حقائق قُتِلت بحثاً، ونتج عن هذا الترويج استسلام بعض النخب لها لكثرة ما حصلت عليه من تكرار وتدوير جعلها في منزلة المسلمات، والمعنيون بإدارة الرأي العام يعلمون أن كثرة ترداد المعلومة ولو كانت موهومة أو باطلة ربما يجعل العقول تتعامل معها تعاملها مع الحقائق.
أضرب مثالا لذلك بحرية التعبير، وهي قيمة لا خلاف في كونها مطلوبة لكن الخلاف في حجم الاحتياج إليها وفي ترتيبها في سلم الأولويات وفي مواضع إعمالها وإهمالها، والجميع يعلم أن المراد الكامل منها: أن يقول من شاء
ما شاء متى شاء أين شاء وكيف شاء، فلا يؤاخذ أحد على إبداء رأيه مهما كان تطرفه، سواء أكان في العقائد أم العبادات أم الأخلاق أم السياسة أم الاجتماع، وهذا المراد -مع مراعاة عدد من الاستثناءات-هو المعمول به في الجملة لدى دول غرب أوروبا وأميركا الشمالية؛ فالغالب: أنه لا حظر على التعبير مهما كانت خطورة الفكرة التي يتضمنها هذا التعبير (وكما أكدت فهناك استثناءات لكنها لا تلغي الأصل)، ومع الحرية هذه فالشعوب هناك تعيش سلاما ثقافيا كبيرا كما هو الظاهر لنا على كل المستويات، فالنخب متعايشة بشكل ممتاز بالرغم من اعتناقها أفكارا يصل التباين بينها حدَّ التضاد؛ والشعوب كذلك تنتسب لعقائد وملل وطرق في العيش وفهم المحيط مختلفة جداً ومع ذلك تبقى متعايشة بشكل مثير.
والشيء الوحيد الذي يجتمع عليه كل هؤلاء الفرقاء هو حرية التعبير وحق كل فرد في امتلاكها وفي ممارستها.
هكذا تبدو صورة الواقع الثقافي هناك لكثير منا، وهكذا يبدو لهم تفسير السلام الثقافي معزواً إلى حرية التعبير.
لذلك تكثفت في الأيام الأخيرة الكتابات التي تطالب بإقرار حرية التعبير المطلقة وحق كل فرد فيها في بلادنا، على اعتبار أننا سنصل بهذا الإقرار إلى ما وصلت إليه شعوب الغرب من سلام ثقافي قضى _كما يتوهمون- على معظم مهددات السلام الداخلي، وقد بلغ التطرف في هذه المطالبات حد اقتراح البعض أن تقوم المملكة بتبنى العلمانية على اعتبار أنها هي البيئة الوحيدة المناسبة لحرية التعبير.
ومكمن الخطأ فيما تقدم أنه عبارة عن فرضيات وأوهام يتم سياقها على أنها حقائق علمية مُسَلَّمة.
فالفرضية الأولى: «أن السلام الثقافي ناتج عن حرية التعبير» يمكن نقدها من جهتين: الأولى التشكيك في وجود سلام ثقافي هناك، وطَرْحُ سؤالٍ مهم وهو: هل هناك سلام ثقافي حقيقي في تلك البلاد أم أن هذا ما يبدو لبعضنا فقط؟!
ألا يمكن أن يكون ما نراه من تفكك اجتماعي وانهيار أسري وانغماس في الفلسفة الفردانية وصل حد العزلة التامة عن المحيط الاجتماعي، إنما هو نتاج عوامل عديدة من بينها الحرية المطلقة في التعبير، والتي هدمت جدار القدسية عن كل مشترك ثقافي تلتقي المجتمعات عليه، حتى الروابط الفطرية كالزوجية والأبوة والأمومة والبنوة لم يعد لها أي قدسية، فضلا عن الروابط الأكثر حشداً كالدين والدولة والأخلاق.
فهل يمكننا أن نصف مجتمعاً كهذا بأنه يعيش سلاماً ثقافياً لمجرد أنه لم يعد يمتعض أفراده من أي فكرة يتم طرحها أمامهم؟
ألا يمكن أن نُفَسِّر عدم الامتعاض هذا بأنه سلوك ناجم عن انهيار المقدس من النفوس والوصول بالمجتمعات إلى الشعور بعبثية الأفكار وبالتالي عبثية الوجود.
ألا يمكن تفسير هذه الانعزالية الاجتماعية على أنها تعبير سلبي عن النقمة من انعدام المشترك الثقافي وانعدام مرتكز فكري يستحق الدفاع عنه، لماذا نفسر عدم الامتعاض من سماع أي فكرة مخالِفة على أنه تعايش، ولا نفسره على أنه تعبير عن الشعور بعدم المسؤولية والأنانية الثقافية.
الجهة الثانية: على التسليم جدلاً بأن ما يحصل عندهم هو سلام ثقافي حقيقي «وهو ليس كذلك في رأيي»، لماذا نُصِر على أن سببه هو حرية التعبير لا غير، وأننا بمجرد حصولنا على الحق المطلق في حرية التعبير سوف نعيش سلاما ثقافياً كالذي يعيشه الغرب؟
إن هذا الإصرار هو تجاهل لكون تلك الدول تملك إرثا ثقافيا وتراثا دينيا، وتاريخا سياسيا واجتماعيا وعسكريا يختلف كل الاختلاف عنا، وأن موروثهم وتاريخهم قد يكون هو سبب الكثير من معالم واقعهم، ومنه السلام الثقافي، وأن واقعهم بكل معالمه قد يكون هو سبب هذا السلام.
بعبارة أخرى: لماذا نصر على أن السبب هو حرية التعبير وليس النظام السياسي أو العسكري أو الإعلامي أو الاجتماعي!
إن اختيار مفردة واحدة من بين منظومة طويلة ومعقدة وإناطة السببية بها هو ما يُسميه علماء الجدل بالتحكم، وثبوت التحكم في أي قضية جدلية كاف لإسقاط الفكرة، لكن المؤسف أن الطرح الثقافي الجديد والذي يستهدف واقعنا الثقافي والأخلاقي والسياسي مبني على مجموعات من التحكمات الجدلية ولا يكتسب مكانته سوى من رواجه الإعلامي دون وجود مطالبات له بإثبات منطلقاته.
أعتقد أن حرية التعبير كغيرها من القيم، والموقف منها له طرفان مذمومان ووسط محمود، ويبقى الإشكال لدى أصحاب الأطراف أنهم غالباً يزعمون تمثيلهم للوسطية بسبب عدم إيمانهم بمحدِّدَات الموقف الوسطي.
أما الفرضية الأخرى: أن العلمانية هي الجو المناسب لحرية التعبير فيمكن أن تناقش بفرضية معاكسة، وهي أن العلمانية كما تصلح أن تكون سببا لحرية التعبير لكونها تفصل الدين عن الحياة، فهي تصلح كذلك لأن تكون سبباً للتضييق على التعبير لكونها لا تريد أن يكون للدين أي تأثير على الحياة، ويمكننا أن نجد أمثلة كثيرة لدول علمانية لا تسمح بالرأي والرأي الآخر إلا بقدر ما تقتضيه النفعية السياسية والاقتصادية.
إذاً فعلاقة السببية بين السلام الثقافي وبين الحرية المطلقة للتعبير لا تثبت عند النقد المنطقي والاستقرائي؛ أما واقعنا الثقافي وما فيه من معارك إقصائية فيحتاج إلى علاج ناجع، لكن هذا العلاج لا يمكن أن يكون مستعاراً، فكما أن المريض يزداد سقما حين تقدم له وصفة من الدواء تمت كتابتها لغيره، فكذلك الأمم والمجتمعات لا يمكنها التشافي بأدوية غيرها، إلا إذا كان مجتمعنا بلغ من الهوان عندنا أن نداويه بأسقام غيره.
التعليقات