فايز بن عبدالله الشهري

يكشف استعراض التاريخ السياسي العربي في العصر الحديث - وخاصة على مفاصل الأحداث المؤثرة في بناء الدول وتشكيل التحالفات - عن الكثير من الإخفاقات العربية في مجال المفاوضات وافتقاد كثير من المفاوضين العرب لمهارات التحليل الإستراتيجي واستشراف المآلات في كثير من المواقف الحاسمة. ولو بدأنا رحلة الإخفاق العربي في المفاوضات منذ سنة 1915 لاكتشفنا إرهاصاتها مع صدور وثيقة "برتوكول دمشق" التي فاوضت عليها بريطانيا مع زعماء الجمعيات العربية (القومية السرية) المتمثلة في "العربية الفتاة" "والعهد" برعاية ووساطة فيصل ابن الشريف حسين.

كانت الوثيقة التي وافقت عليها بريطانيا تتضمن إقامة دولة عربية كبرى ولكن المفاوض العربي لم يدرك أنّه سلّم أرض ومصالح العرب للبريطانيين والفرنسيين ومن معهم الذين حسموا مصالحهم في المنطقة بتوقيع اتفاقية سايكس بيكو سنة 1916 التي قسمت أراضي الشام والعراق إلى مناطق نفوذ للمستعمرين ثم كان وعد بلفور بعدها بعام (1917) الذي نص على "إن حكومة بريطانيا تنظر بعين الارتياح لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين". وهكذا فقد العرب كل أحلامهم التي انتهت تماما في مؤتمر فرساي سنة 1919 حين أقرّ المؤتمر سياسة الانتداب على معظم الدول العربيّة ثم تأكدت الهيمنة باتفاقية "سان ريمو" عام 1920 التي حددت مناطق النفوذ البريطانية والفرنسية في المشرق العربي.

وقد استمر حال المفاوض العربي على ذات الحال بعد الحرب الغربية الأولى وأثناء سنوات الحرب الثانية وفيما بعدها بدءا بتقسيم فلسطين وليس انتهاء بخدعة كيسنجر بسياسة الخطوة خطوة في السبعينيات ثم في التسعينيات وما بعد في سلسلة المعاهدات المنفردة مع كل دولة عربية على حدة – بشرط الصهاينة - حول الصلح والسلام. وحين يغوص الباحث في التفاصيل يجد أن العرب كانوا موجودين في معظم هذه المفاوضات وكان صوتهم صاخبا ولكنهم أخفقوا في تثبيت مطالبهم وحقوقهم نتيجة اختلاف الآراء والخيانات كما يقول المتخاصمون العرب أو جراء نقص مهارات التفاوض السياسي عند كثير من المندوبين كما تكشف الوثائق الغربيّة.

وتقول الأدبيات الغربية أيضا إن المفاوض العربي عاطفي سريع الثقة ولذا يفضّل التلاعب معه بالوقت والحرص على بناء علاقات شخصية حتى يمكن "التغلب" عليه. ويقولون أيضا بأن المفاوض العربي يضيق بالتفاصيل الدقيقة ولذا ينصحون من يصيغون العهود والاتفاقيات بوضع ما يريدون من احترازات وسط سطور الصفحات الطويلة لأنهم حين يحتاجونها قانونا فلن تشترط المحكمة أو أي لجنة دولية إلى أن يكون النص عريضا في رأس الصفحة. وفي مذكرات بعض السياسيين الغربيين نجد بعضهم يعوّل كثيرا على "المستشارين" حول السياسي العربي كونهم هم من يديرون الملفّات ويعدّون المسودات ويملكون التأثير.

من الناحية الثقافية يُصنّف العرب في علم عالم الأنثروبولوجيا ضمن مجموعة من الأعراق تحت ما يسمى بذوي "السياق الثقافي العالي" وهذا التصنيف يشمل نسبة كبرى من شعوب آسيا وأفريقيا أيضا. ويتميز المنضوون تحت هذا التصنيف بالتأثر بالثقافة أكثر من المصلحة والتعبير عن النفس والتطلعات بتعبيرات مجازية غير مباشرة ويمكن أن يخسر صاحب هذه الثقافة كثيرا فقط لحفظ ماء الوجه والاحتفاظ بكبريائه.