علي أبو الريش

هي هكذا تبدو زلامسي على طريقة غاندي، أو حتى أوشو، فلا هي شرقية غارقة في الحزن التاريخي، وتلاشي الذات، ولا هي غربية مصابة بالجفاف العاطفي، وتخطو بخطوات سريعة وآلية نحو اللاشيء، فهي ناعسة، ناعمة منعمة بالسكينة والاندماج الكلي في الوجود، هي موجودة في صلب الحياة تقع ما بين منحدر جبلي يرتدي لباساً أخضر، وبساط مائي تسبح فيه الأجنحة بوداعة الأشياء الفطرية، بغريزة العفاف الجبلي، ويبدو الطريق المحاذي لخاصرة الجبل، المرافق لخطوات الناس كحارس ليلي يخفق بالطمأنينة، وتطفو على نسيجه الرمادي أقدام تسير على الأديم بحنين الأجساد إلى أمنا الأرض، فلا تسمع غير همسات، وهمهمات، ودندنات، كرنين السواقي في جوف الأمكنة الحنون، وطائر البط يدير عنقه إلى الخلف مخفياً منقاراً كملعقة الطعام الصغيرة، مدفوناً في جوف الريش الرهيف، ينام بسلام الكائنات المطمئنة، لا يخشى مداهمة، ولا يهاب مباغتة، الناس هنا في زيلامسي يعيشون من غير غضب داخلي، ولا ضجيج مشاعر، وترى من قريب البط يهفهف بمراوح من سعف النخيل، ويمضي في غايته، بحثاً عن حبة قوت، أو لمظلة تبلل ما جف في الحلق.


خلائق من جنس البشر، يرتادون السكينة، ويسرجون خيول الخيال، وتمنيات قد لا تحدث في مكان آخر غير زلامسي، ولكن في كل الأحوال، لا يشعر المرء هنا إلا بوهج رباني وهو يصغي إلى رنين أجراس الكنيسة وهي تصحو من فراش مارتن لوثر كنج لتدق نواقيس الذاكرة معلنة سلاماً دائماً يجمع كل الأعراق والأديان، كما قال روسو، وسريرة النابهين لا توصد باباً للذاكرة، فكما هي تنادي لصلاة كنسية ورعة، أيضاً تذكر الغائبين عن الوعي بأن هنا في شرق القارة من يقومون الصلاة لأجل الإله الواحد، فلا جدال حول دين أو عرق، المهم أن نصلي جميعاً، ونصوم عن الحقد والكراهية، وضغائن الفرقة والتمزق.
كبار في السن بوجوه أطفال يلاقونك بابتسامة أشف من بحيرة زلامسي، ويمضون في روية، فتشعر أن العالم صغير على الرغم من اتساعه، وأن قلب البشرية واحد، وما يعدد، وما يبدد، وما يقدد، وما يحدد، هو هذا العقل المشحون برواسب التاريخ، ونفايات ما قبل الوعي.


عندما يصبح العقل مثل بحيرة زلامسي، لم تلوثه أكاذيب، ولم تعثره أوهام، يصير طريقاً سالكاً نحو الحياة، وتصبح الحياة شجرة، على أغصانها تغرد عصافير الفرح، وتسمو الأفكار، وتفيض المشاعر بعطر الذين أسسوا للتاريخ نخوة التلاقي، والتلاقي، وجردوا الأغصان من أشواك اليأس والعبوس.