&هشام الطرشي

&

ارتفعت، في الآونة الأخيرة، وتيرة الإقبال على هجرة الوطن بحرا في اتجاه الضفة الشمالية، ولا أدل على ذلك العدد الهائل للجثث التي يلفظها البحر آناء الليل وأطراف النهار.

قد تكون وتيرة الإقبال على الهجرة سرا إلى أوروبا هي نفسها بين الأمس واليوم، كما قد يكون الفرق الوحيد هو هذا المد التكنولوجي الكاسح الذي يوثق للحظات الهجرة السرية التي تبث مباشرة بالصوت والصورة على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما لم يمكن ممكنا في السالف من سنوات.

الواقع يؤكد أن فئات من الناس يعيشون حالة إحباط عـام لم تسجل خلال العشرين سنة الأخيرة على الأقل: تراجع في المكتسبات وتضييق على الحريات وهضم للحقوق، إضافة إلى القدرة الشرائية التي تسجل تراجعا مهولا، وتوجه حكومي خلال الولايتين الأخيرتين يعكس رغبة غريبة على إقبار ما أتى به دستور 2011.

ففي مقابل عشرات النساء والشباب والأطفال الذين يضطرون في كل وقت وحين إلى ركوب أساطيل قوارب الموت في اتجاه المجهول على أمل الرسو على شاطئ «الفردوس الأوربي»، تواجهنا شواطئ مملكتنا السعيدة بالكم الهائل من الجثث وهي تصرخ آهات فراق ذوي القربى ومعها حضن الوطن..

لكن الحقيقة هي عكس الصور والفيديوهات التي تقع عليها أعيننا كلما فتحنا هواتفنا الذكية، ليس بعضٌ من مواطني هذا البلد من اختاروا كرها وغصبا قوارب الموت، بل هي مؤسسات الدولة..

نعم إنها الحقيقة، مؤسسات الدولة هي من تركب هذه القوارب فتبحر بها إلى أبعد نقطة وسط البحر وتقذف بها هناك، فلا هي ظلت هنا تباشر مسؤولياتها ولا هي بلغت ضفة أخرى بحثا عن وطن آخر..

مؤسسات اختارت قوارب الموت لهجرة كل ما له علاقة باحتياجات الوطن والمواطن، اختارت الابتعاد عن صلب مهامها ومسؤولياتها وغايات وجودها، وفّرت لنفسها الوقت الكافي لتختار القارب الذي يناسبها شكلا وحجما، تختاره بعناية فائقة. عموما جميعها قوارب صغيرة وبئيسة، ورائحة الموت في كل لوح من ألواحها، هي قوارب موت تناسب مؤسسات ميتة قدر قتامة الواقع الذي لا وجود لها فيه..

أحد هذه القوارب خصص للمجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي، وقد شوهد وهو يتأبط قانونه التنظيمي الذي يتأكد لنا يوما بعد يوم أنه مجرد سراب في صحراء قاحلة. مجلس تعاقبت عليه حكومتان ولم توليه أدنى اهتمام ولا أعطته معنى وغاية الوجود.

فالبرغم من أنه هيئة استشارية المفروض في كل حكومة، وفور تنصيبها، أن تبادر بطلب رأيه في كل ما له علاقة بالسياسات العمومية الموجهة إلى الشباب لتحدد على إثر ذلك تصورها العام للسياسات العمومية حتى يتمكن كل وزير من إدماج تلك الاستشارة وتوصيات المجلس المرتبطة بها في مخطط قطاعه الحكومي وما يتطلبه ذلك من برامج ومخططات وأيضا من اعتمادات مالية.

مجلس اختار قارب الموت احتجاجا على السكيزوفرينية التي تتعامل بها الدولة بخصوص نظرتها لقضايا الشباب؛ فمن جهة تدعو وتؤكد على الاهتمام بالشباب تعليما وصحة وشغلا وإدماجا في الحياة العامة، ومن جهة أخرى تجتهد وتبدع في إخراج المجلس في صورة مشوهة، بقانون تنظيمي دون الحد الأدنى من الانتظارات، وهو ما لن يجعل منه هيئة استشارية بصلاحيات واضحة وواسعة تمكنه من التشخيص والمبادرة والاقتراح في كل ما له علاقة بقضايا الشباب، والمؤكد أنه سيتم الإمعان في وأده حين «اختيار» أعضائه من خلال إسقاطات فوقية لا تراعي سوى القرابة والولاء لهذا الطرف أو ذاك..

الجهوية الموسعة بدورها فقدت الأمل بعد كل هذه الانتظارية وتسويف وتماطل الحكومتين المتعاقبتين عليها واللتين فشلتا في تنزيلها. ملّت الجهوية من كثرة ترديد الرسائل والإشارات والمؤاخذات التي لم تتعدّ زمن إلقائها، لتعود الأمور إلى سابق عهدها وكأن شخصا لم يعطِ الإشارات ولا التوجيهات ولا المؤاخذات..

اختارت الجهوية الموسعة، إذن، أحد قوارب الموت احتجاجا على تماطل وتسويف الحكومة وعدم الاهتمام بها وعدم تمكينها من القوانين التنظيمية والمراسيم اللازمة لأجرأتها على أرض الواقع. هي جهوية لم تقم سوى بالانتفاضة على عقلية بيروقراطية سلطوية أثبت واقع حال «عقيدة» الحكومتين أنها غير مستعدة للتنازل على صلاحياتها المركزية لمجالس الجهات لمباشرتها.

قارب الموت الآخر ركبه مجلس المنافسة الذي، ومنذ تأسيسه، ظل بعيدا على غايات إحداثه على الرغم من مضي سنوات على انتهاء مدة انتداب أعضائه. مجلس أظهر فشلا ذريعا في ضبط المنافسة في السوق ولجم المتلاعبين بالأسعار والمنتجات. مجلس لا ترى الحكومة داعيا ولا أولوية في تجديد هياكله بما أنه يؤدي خدمة نوعية لها، كونه الاسفنجة التي تمتص ارتدادات تصريحات أعضائها الذين لا يترددون في التصريح أن المجلس غير المجددة هياكله هو الحلقة الأضعف في منظومة اقتصادية موغلة في الفساد، هو حق أريد به باطل التنفيس على أزمات الحكومة التدبيرية خلال حملات المقاطعة المتتالية، والداخلية التي تعصف في كل وقت وحين بتحالفها الهش.

تقارير المجلس الأعلى للحسابات بدورها سئمت حالة الجمود التي تعيشها رافضة أن تظل مجرد أوراق على رفوف إدارة إدريس جطو، فقررت التمرد على الوضع السائد والهجرة بحرا عبر قوارب الموت وإن كانت الهجرة سرية نحو المجهول..

تقارير وقف الساهرون عليها، بالدليل والبرهان، على جوانب من الصورة القاتمة لمؤسسات تعيش بالفساد وعلى الفساد بلا حسيب ولا رقيب، وعوض أن يتم الاهتمام بها وإيلائها العناية اللازمة من خلال تفعيل إجراءات المتابعة القضائية وإلحاق الجزاءات اللازمة بكل من ثبت فسادهم وتقصيرهم في تدبير المؤسسات العمومية وتبذير المال العام، وجدت صفحاتها وأغلفتها ممدة على رفوف خزانة المجلس الأعلى للحسابات، وكأن لسان حال المسؤولين على تفعيل الجزاءات في حق المفسدين والمخالفين والمقصرين في واجباتهم يقول لهم لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون، عيثوا في المال العام فسادا، فلن تطالكم أيدي القضاء ما دمنا هاهنا قاعدون.

قطاعات الصحة والتعليم والشغل بدورها اجتمعت على عجل وقررت أن تركب مجتمعة واحدا من قوارب الموت، بعدما كفرت بكل وعود الإصلاح؛ فلا الحكومات تخصص لها الميزانيات اللازمة لتجويد خدماتها المقدمة للمواطنين الذين هم في أمس الحاجة إليها، ولا الذين هم في مواقع المسؤولية يمتلكون رؤية لتدبير هذه القطاعات مركزيا وجهويا ومحليا بمقاربة مبدعة تزاوج ما بين تجاوز الإكراهات وبين حجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم بالنظر إلى حاجة المواطنات والمواطنين إلى هذه الخدمات التي أكد دستور المملكة على أهميتها وإلزامية توفيرها بالقدر والجودة التين تعكسان كرامة المواطن وإنسانيته.

الحكومة لم تشكل الاستثناء وسط هذه الهجرة الجماعية لمؤسسات الدولة نحو المجهول عبر قوارب الموت، حيث اختارت طواعية ركوب أحد القوارب والابتعاد عن هموم المواطنين وأولويات الوطن، اختارت أن تبقى على مسافة من الاحتياجات الملحة وأن تعتني بكل ما يمكن أن يذر الامتيازات على أعضائها والموالين لهم في الدواوين والمؤسسات والهيئات التي تقحمهم فيها قحما.

حكومة فاشلة استنفدت كل مبررات وجودها واستمرارها، وإن كان لأي عضو فيها ذرة كرامة ومواطنة لاستقال بعد كل جثث بنات وأبناء الوطن التي يلفظها البحر. جثث ستظل أقوى دليل على سياسات حكومية موغلة في الفشل والانتهازية، مستغلة كل ما يمكن استغلاله من دين وديمقراطية ومصالح عليا للوطن ليبقى الحال على ما هو عليه في اتجاه المزيد من التأزيم في أفق الأزمة الشاملة التي ستأتي على الأخضر واليابس.