&علي محمد فخرو

مثلما يعيش الوطن العربي أزمات مفجعة في السياسة والاقتصاد والأمن، فإن أهم وأقوى عناصر توحيده القومي، وهي الثقافة العربية الجامعة، تواجه، هي الأخرى، أزمتها . والواقع أن تلك الأزمة قد بدأت ملامحها في القرن التاسع عشر عندما حكمتها اتجاهات : السلفية المنغلقة على الذات، أو الشعور بالدونية أمام ثقافة أوروبا وبالتالي المناداة بالانصهار فيها بصورة كلية وبلاضوابط، أو الوسطية التلفيقية الحائرة.
والواقع أنه آن الأوان لتخطّي كل ذلك، والانتقال إلى ثقافة جديدة تنطلق من أصول أربعة هي: التراث والواقع العربي الراهن والواقع العالمي وحاجات المستقبل العربي. فما هي المداخل الرئيسية المطلوبة لتحقيق ذلك الانتقال؟.
أولاً: وفي القمة، هناك حاجة لمراجعة ونقد وإعادة تركيب وتجاوز تراثنا العربي، لأننا في الواقع نعيش ذلك التراث في حياتنا الحاضرة، وبالتالي فإن تغيير الحاضر لن يتم إلا إذا صاحبته تلك المراجعة في قلب التراث، وبالتالي في قلب ثقافتنا الحالية، يقبع موضوعان خطيران هما: الفقه الإسلامي من جهة ومايعرف بعلوم الحديث النبوي من جهة أخرى.


أما التراث الفقهي فهو نتاج اجتهادات بشرية، ارتبط قسم كبير منها بحاجات فترات تاريخية سابقة واعتمد على ما وصلت إليه علوم تلك العصور القديمة، وأصبح بحاجة إلى أن يجدّد جذرياً ليلبي حاجات عصرنا الذي نعيش ويعتمد على ما وصلت إليه علوم عصرنا، أما حقل الأحاديث النبوية فقد بينت الأبحاث والدراسات الكثيرة، إشكالات تتعلق بمنهجية جمعه وتدوينه وبثغرات الدس والإضافات، وباستعماله في الصراعات السياسية والمذهبية وإملاءات سلطات الحكم لخدمة تسلطها وإغراءات المال والوجاهة.
أهمية تنقيح التراثين تكمن في نفوذهما الكبير في تكوين العادات والسلوكيات والقناعات التي تمارسها وتؤمن بها أعداد هائلة من العرب والمسلمين، وهي سلوكيات وقناعات بالغة التخلف والتضاد مع حاجات العصر الذي يعيشه العرب.
ولعل الممارسات العنفية والبربرية التي تقوم بها الجماعات الجهادية التكفيرية في طول وعرض بلاد العرب، والتي تعتمد في تبريرها على أجزاء من ذلك التراث، تكفي لإقناع الجميع بالحاجة الملحة لإجراء تلك المراجعة بصورة شاملة وجذرية تعيد للإسلام ألقه كمكون روحي وأخلاقي، يغني الثقافة العربية ويسمو بالجوانب الإنسانية فيها من جهة وتصحيح الكثير من المفاهيم الخاطئة بشأن حقوق المرأة وكرامتها ومساواتها وبشأن الممارسة الديموقراطية في الحياة السياسية العربية.
ثانيا: إصلاح وتجديد حقل التربية والتعليم، إذ لايمكن الحديث عن ثقافة جديدة ذاتية؛ إذا لم نعد الإنسان العربي الذي سيقبلها ويمارسها في واقعة الفردي والمجتمعي.


من هنا الحاجة لأن تجعل العملية التعليمية العربية أولويتها القصوى بناء ذهنية فكرية قادرة على ممارسة التحليل والنقد والتركيب والتجاوز والاستقلالية والتعلم الذاتي المستمر، متشبعة بقيم أخلاقية وإنسانية ، مقاومة للسلوك الأناني المنغلق، ومتمكنة من رفض الجوانب السلبية الكثيرة في الثقافة العولمية الحالية المرتبطة بالنظام الرأسمالي النيولبرالي البالغ التوحّش.
إن بناء هكذا ذهنية سيحتاج إلى توفّر أمرين : أولهما تهيئة معلم ممتهن ومثقف يؤمن بضرورة ذلك التغيير، وثانيهما بيئة مدرسية تمارس الديموقراطية في الصف ليتعلم الطلبة منهجية الحوار والتسامح مع الآخر والاستقلالية في الفكر.
ثالثاً: حل إشكالية التعامل مع ثقافة الآخر، وعلى الأخص ثقافة الغرب المهيمنة على مسرح العالم، فالتعامل مع هذا الموضوع من خلال مشاعر العجز والخوف والدونية كان ولايزال هو السمة التي تطبع العلاقة مع الغرب، وذلك النوع من التعامل لن يتوقف إلا إذا جرت مراجعة تحليلية نقدية لموضوع الحداثة الغربية برمتها، عند ذاك ستنكشف أسطورة المركزية الثقافية الغربية المتعالية على الآخرين من خلال إبراز العلل الكثيرة التي رافقت الحداثة الغربية عبر مسيرتها، والتي بدأت عناصر كثيرة في الغرب نفسه تكتشفها وتدعو إلى عالم ما بعد الحداثة، بل عالم ما بعد بعد الحداثة.


عند ذلك ستتفاعل الثقافة العربية الجديدة بندية وإبداع وتعاون مع ثقافة الغرب، لإنتاج ثقافة إنسانية مشتركة تبعد عالمنا عن الجحيم الظالم الذي يعيشه، خصوصاً في مواضيع مثل السياسة والاقتصاد والقيم والبيئة.
رابعاً: ربط الموضوع الثقافي كجزء من مكونات المشروع النهضوي العربي القائم على متطلبات ضرورة الوحدة العربية، أمة ووطناً، والاستقلال الوطني والقومي في مواجهة المشروع الصهيوني وتدخلات قوى الاستعمار، والديموقراطية في مواجهة الاستبداد، والتجديد الحضاري الذي سيكون رأس حربته مشروع بناء الثقافة العربية الجديدة التي نتحدث عنها.
بدون إيديولوجية نهضوية شاملة تحيط بالمشروع الثقافي، ستكون الثقافة الجديدة في خطر التزييف والنكوص.

&