صدقة يحيى فاضل

كثيرا ما يصنف سلوك البشر، تبسيطا، على خط مستقيم.. يقسم إلى ثلاثة أقسام متساوية.. بحيث يشغل كل قسم ثلث مساحة الخط المستقيم. ويشار إلى الثلث الأول منه الذي على يمين الناظر إلى الخط بـ«اليمين»، والثلث الأوسط بـ«الوسط»، بينما الثلث الأخير الواقع على يسار الناظر إلى الخط بـ«اليسار». وعندما نحاول «تصنيف» الـ«سلوك السياسي» والفكري لأفراد أو مجموعات معينة من الناس (تقريبيا) على مستقيم التوجهات الفكرية الثلاثي الأبعاد هذا، نضع كل شخص في الثلث الموافق لسلوكه وفكره، بناء على مدى محافظته، أو رغبته في «التغيير». كما يمكن تقسيم من هم في الثلث نفسه، ويعتنقون نفس التوجه، الى يمين ووسط ويسار.

إن صفات «اليمين» (Right) و«اليسار» (Left) و«الوسط» (Moderate)...إلخ، التي تطلق اليوم على الأيديولوجيات والتيارات السياسية المختلفة، ويوصف بها أنصارها، تعود (تاريخيا) إلى القرن الثامن عشر الميلادي. وتعتبر هذه الصفات أهم وأول معايير تصنيف الأيديولوجيات والعقائد السياسية، وكذلك التيارات الفكرية والسلوكية السائدة في عالم اليوم.

وقد برزت هذه الصفات، وبُدئ في استخدامها، بعد قيام «الثورة الفرنسية» وتأسيس «الجمعية الوطنية» الفرنسية (البرلمان الفرنسي) سنة 1789م. ومنذ ذلك الحدث، أخذت هذه الألفاظ، وما تفرع منها كـ«يمين اليمين المتطرف»...الخ، تستعمل في وصف (وتقسيم) العقائد والتوجهات السياسية والفكرية المختلفة. فيقال -مثلا- إن هذه الأيديولوجية «يسارية».. إن كان أنصارها ينادون بإحداث تغيير جذري في الوضع القائم. وتوصف بأنها «يمينية» إذا كانت محافظة.. بينما توصف الأيديولوجيات ذات الأهداف المعتدلة بأنها «وسط». مع وجود تفرعات مشابهة لكل توجه رئيس. ونحاول في هذا المقال تسليط بعض الضوء على بعض ما يلاحظ على اليمين العربي الحالي.

***

إن عالمنا العربي، كغيره من بلاد ومناطق العالم، يحفل بكل التيارات الممكنة، المتخيلة وغير المتخيلة.. التي تمتد من أقصى اليمين، أو من يمين اليمين، إلى أقصى اليسار، أو يسار اليسار. ولكن، تلاحظ الآن سيادة التيار اليساري، بتفرعاته المختلفة، في معظم أرجاء هذا العالم، خاصة في أوساط المفكرين، والمثقفين، وحتى بعض المتعلمين. وبما أن اليسار بتفرعاته وأنواعه يدعو إلى «التغيير» (hange) فإن السيادة النسبية لهذا التيار تعني: سيادة الرغبة في تعديل الواقع، أو سيادة رغبة القطاع المفكر والمثقف والمتعلم، في التغيير. وهذا أمر طبيعي، اذا أخذنا في الاعتبار أن «الوضع» العام، في أغلب أنحاء العالم العربي، مزر ولا يسر أي صديق.

إن الإنسان السوي بطبعه يرغب دائما في التغيير، ويتطلع لحياة ووضع أفضل مما هو فيه، مهما كان ذلك الوضع مريحا ورغدا، ناهيك عندما يكون الوضع المعني مزعجا، وسيئا، ومتدهورا. وبالطبع، هناك «تفاوت» في مدى قوة هذه الرغبة من شخص لآخر. كما يتميز المفكر والمثقف، والمتعلم تعليما عاليا، بالرغبة الجامحة والدائمة للتطور والتطوير.. حتى قيل: «إن المفكرين لا يعجبهم العجب، ولا حتى الصيام في رجب». وتلك غريزة إنسانية أصيلة، لولا وجودها في البشر، لبقي العالم على سيرته الأولى، التي خلق عليها.

***

إن المفكر في سعي دائم للتغيير نحو الأفضل.. وكأنه يتطلع نحو وضع «مثالي» (أو نموذجي) يصعب بلوغه في حياة المفكر، مهما طال عمره. فالمفكرون يسعون -كما يبدو- لتقليص «عيوب» ومصاعب البشر لأدنى حد ممكن، و«تعظيم» مزاياهم وتقدمهم ورفاههم، لأقصى حد ممكن. وتلك مهمة بالغة الصعوبة، إن لم نقل مستحيلة. ومع ذلك، يحمد لهؤلاء تطلعهم الدائم نحو العلا، ونحو تحسين حال الإنسان في هذه الدنيا، وعدم التوقف عند وضع معيشي معين، مهما كان حسنا. إذ، في عرفهم، لابد دائما من البحث عن الأحسن، والسير تجاه الأفضل.

إن من أكبر الخطايا التي يرتكبها المفكر والمثقف، في حق نفسه وأهله ومجتمعه، هي أن «يزين» واقعا سيئا، ويروج لباطل واضح، مستخدما معرفته وقدراته المعرفية لإقناع الآخرين بصلاح ذلك الوضع، والرضا به للأبد. يقول كثير من علماء السياسة والاجتماع الإنساني: إن رضا شخص ما بوضع عام مزر معين، ودعوته لـ«الحفاظ» عليه، يعني أن هذا الشخص هو واحد من أربعة: إما مستفيد، أو منافق، أو فاسد، أو جاهل.

***

قلة قليلة جدا من المفكرين والمثقفين، على مدار التاريخ، تدعو لـ«المحافظة» التامة، على وضع حياتي سيئ معين، وعدم السعي لتغييره، إلى ما شاء الله، وليس فقط مرحليا، وحينما توجد محاذير وتداعيات سلبية للتغيير. حتى غالبية من يصنفون ضمن «المحافظين» (اليمينيين) يدعون دائما إلى شيء من التغيير، أو التطوير، حيثما تيسر.

والشاهد، أن سوء الأوضاع في أغلب عالمنا العربي جعل حتى معظم اليمين العربي يساريا، متطلعا للتغيير. والفكر اليساري -سواء كان عربيا أو غير عربي- الداعي إلى التغيير المناسب، إن لم يشتط عقائديا ومنطقيا، فإنه يخدم البشرية بتطلعاته نحو التصحيح، ونحو «الأفضل». وقد أسهم بهذا التطلع في تحقيق أبرز إنجازات البشرية، ومعظم آمال الناس وتطلعاتهم. أما فكر الركود والتحجر، فإنه غالبا ما يؤدي إلى زيادة طين الناس بلة.

&