صالح زياد

لا ينفصل «العقل» عن الإنسانية في الدلالة التجريدية التي تجعله قيمة لاستمداد أحكام الصحة والحقيقة وبرهانها. وهو بعد ذلك قسمة بين الناس فيما قال ديكارت

أعجبني مقال زميلتنا في الوطن عبير العلي «محرقة الهولوكوست ورابطة العالم الإسلامي»، ومقال عقل العقل في الحياة «نحن والهولوكوست» وما يجري مجراهما من مقالات ربما لم أحظ بالاطلاع عليها.
فالموضوع الذي تناوله المقالان هو رسالة الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، الدكتور محمد العيسى، إلى مديرة المتحف التذكاري للهولوكوست في الولايات المتحدة الأميركية السيدة سارة بلومفيلد، بمناسبة الذكرى الدولية للمحرقة اليهودية (الهولوكوست) التي يُحتفل خلالها بالذكرى السنوية لتحرير معتقل أوشفيتز.
والرؤية إلى هذه الرسالة في المقالين، متفهمة لها، ومتفاعلة مع القيمة التي تطمح إلى تأسيسها، والمعنى الذي تترامى إلى تصحيحه، مستصحبة في تفهمها وتفاعلها معها، الوعي بما تحتكم إليه من مبادئ دينية وعقلانية وأخلاقية، والانتباه إلى سياقها ودواعيها في أكثر من وجه.
رسالة أمين عام الرابطة تتضمن الوصف للهولوكوست بأنها جريمة بحق الإنسانية، والتخطئة لأي تبرير لها أو تقليل من شأنها، والبراءة للإسلام والمسلمين من القبول بها، أو عدم الحزن والأسف عليها. كما تتضمن البراءة من المتطرفين، المنتمين إلى الإسلام أو المنتمين إلى غيره من الأديان، الذين يعلنون كراهيتهم للآخرين حتى من أبناء ديانتهم، ويتأولون الدين لأهوائهم ومآربهم السياسية.
ولا بد أن من طالع التعليقات التي هاجمت الرسالة والرابطة والدكتور العيسى في مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصا تلك المدوّنة تحت معرفات مجهولة الهوية، أو المنشورة في مواقع المتطرفين وصحافتهم وقنواتهم، سيدرك أهمية الرسالة وموضوعها، وسيدرك قيمة الرؤية التي تحملها، ومن ثم الحاجة إلى المقالات والتعليقات التي تتفاعل معها إيجابيا، لترسيخها والإقناع بها.
فالهجوم كله على اختلاف دعاواه وتوصيفاته، يجتمع في استدلال زائف ومضلِّل، وبلا معقولية أو إنسانية، يبرِّر قبول الإيذاء لليهود بالاختلاف عنهم في الدين، ويفسّر أي تعاطف معهم بأنه تفريط في فلسطين وتعاطف مع الصهيونية، ونقصان في الولاء للإسلام.
ولا يختلف موقف الدوائر الغربية والصهيونية المعادية للإسلام والمسلمين، عن موقف المتطرفين من المسلمين، في التصادم مع مضمون الرسالة: الأولون يجدون فيها ما ينقض مزاعمهم التي تُعمِّم التعصب والكراهية للآخر والإرهاب والوحشية على الإسلام والمسلمين، والأخيرون يجدون فيها نقضا أو توهينا لما يسعون إلى إحكامه من قطيعة وعزلة عن العالم، ومن ذرائع التجنيد لأتباعهم، والاستبداد بعقولهم.
وقد تنبَّهت عبير العلي في مقالها إلى قراءة مقاصدية لرسالة الرابطة، إذ رأت أن الرسالة تندرج ضمن مناشط الرابطة المختلفة في الانفتاح على غير المسلمين. والرابطة بذلك، فيما قالت عبير: «تعمل على تحسين صورة الإسلام التي شُوِّهت كثيرا لدى الآخر مع مختلف العمليات الإرهابية والتصرفات المتطرفة التي ينتسب فيها من يتبناها إلى الإسلام».
أما لدى عقل العقل فالرسالة خطوة من الرابطة تستحق الثناء، لأن «فيها من الشجاعة الكثير». واختياره الوصف بالشجاعة دال هنا على التحدي الذي يواجه من يعمل ضد التطرف، وضد الاستسلام لما أشاعه من أوهام، ودال على التحدي في مواجهة الأجنبي المعادي الذي يُخيِّل للذات ضعفها، أو يتأولها بالضد مما تريد،
حين تريد أن تُثبت للعالم أنها خارج إطار الصورة المفرحة له، التي يسعى على الدوام إلى تثبيتها.
وأظن أن قصد الرسالة إلى إعلان التعاطف مع الآخر، أي آخر، حين يقع ضحية إجرام عنصري، أوسع مدى من القصد إلى تحسين صورة الإسلام والمسلمين، أو إلى تحدي التطرف والتشويه، فهي إلى هذا وذاك دلالة على قيم دينية وعقلانية وإنسانية وأخلاقية، نحن في مسيس الحاجة إلى التهذُّب بها والرقي إلى مستواها. ومن هذه الوجهة فإن رسالة الرابطة تمارس فعلا تنويريا في وعي المجتمعات الإسلامية.
هذا الفعل التنويري يظهر في بناء الرسالة، فهي ليست إبلاغا مجردا للمرسَل إليه بحكم التعاطف تجاه الضحايا من اليهود في المحرقة والإدانة لقاتليهم، بل خطاب في الاستدلال على هذه الجريمة، وتعليل لما تستحقه من التنديد والإنكار. ومصادر الاستدلال ومرجعيات التعليل لخطابها، متنوعة، ولكنها مجتمعة في دلالة التحرير لقيمة الإنسان من أي تصنيف ديني أو عرقي أو فئوي بأي معنى، ومجتمعة في تعظيم حرمة الدم والتجريم للعنف، وفي التأسيس لعلاقة متبادلة بين الذات والآخر، تفترض أن الرضا بما ينال الآخر من سوء، دعوة له إلى ممارسة الشيء نفسه مع الذات، وكذلك العكس.
ويمكن للمرء أن يلمس امتلاء خطاب الرسالة بالمبادئ التي تستمد منها معياريتها تجاه موضوعها، وتتقوَّى بها في تجسيد تعاطفها مع الضحايا الأبرياء من اليهود، ونقمتها تجاه الجلادين المتوحشين النازيين الذين اقترفوا هذه الجريمة العنصرية الشنعاء. ولكن الرسالة بحكم القيم والمبادئ التي تستمد منها معيارية أحكامها على ذلك النحو، تفرض المجاوزة للتحديد والتخصيص، ليشمل التعاطف الضحايا الأبرياء من كل الأديان والأعراق والفئات، وتشمل النقمة والإدانة والتجريم لكل العنصريين المجرمين القتلة.
وتأتي «الإنسانية» في مقدمة المبادئ التي استمد خطاب الرسالة منها أحكامه. إنها وما يتضمن دلالتها من ألفاظ، دلالة تجريد للكائن الإنساني، بحيث يعم حكمها كل البشر من دون اعتبار لأي تصنيفات أخرى. ولذلك اتخذ منها خطاب الرسالة قيمة العدالة والتشارك والمساواة، بالقول: «وإن العدالة باسم البشرية جمعاء تحزن وتأسف على هذه الجريمة بعيدا عن كل التحيزات». «ونـحن في الرابطة لا نعرب عن وجهات نظرنا استنادا إلى أية أبعاد سوى البعد الإنساني البحت المتعلق بالأرواح البريئة».
ولا ينفصل «العقل» عن الإنسانية في الدلالة التجريدية التي تجعله قيمة لاستمداد أحكام الصحة والحقيقة وبرهانها. وهو بعد ذلك قسمة بين الناس، فيما قال ديكارت، أي أنه قيمة عموم إنساني لا اعتبار فيها لخصوص فئوي بأي صفة أخرى. وقد اتخذت الرسالة من العقل مصدرا للتدليل على صحة ما تتبناه من تجريم وتعاطف، حين تساءلت سؤالا استنكاريا: «أيُّ امرئ عاقل يمكن أن يتقبل أو يتعاطف أو حتى يقلل من حجم هذه الجريمة الوحشية؟».
وكانت «الحرية» و«الكرامة» مصدرا مزدوجا لاستمداد الرسالة قيمة حكمها في تجريم الجلاد والتعاطف مع الضحايا، فالحرية والكرامة هما الثمن الجدير بالإفادة من تضحية الضحايا بأرواحهم: «دفع هؤلاء الضحايا حياتهم البريئة ثمن تذكير لا ينسى بالحرية والكرامة». ولازم ذلك أن يغدو عدم التعاطف معهم والإدانة لمن اقترف الإجرام بحقهم «إهانة لكرامة الأرواح البريئة».
ولم يغب «الإسلام» عن خطاب الرسالة التي تنطق باسم رابطة المسلمين، فهو مصدر أساسي لأحكامها. وقد دللت الرسالة على تحريم الإسلام وإدانته هذه الجرائم، بدلالة تحريم القرآن الكريم قتل النفس البريئة «من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا»، وبدلالة التاريخ الإسلامي الذي تعايش فيه المسلمون مع كافة أتباع الأديان الأخرى.
ونتيجة هذا الاستدلال المستمد من مبادئ وقيم ذات عموم إنساني، لا تقف عند اشتراع الرسالة قيمة للتعاطف مع قضية إنسانية وإدانة للعنصرية والتطرف بالمطلق، ولا على ما تعكسه من خيرية الذات الإسلامية التي يتضمنها استدلالها وينطق باسمها، بل تمتد أيضا -ضمن ذلك وبمقتضاه- إلى إدانة إجرام العنصرية الصهيونية المنتسبة إلى اليهود في فلسطين وفضحها.