طلال صالح بنان
من أهم مؤشرات التنمية السياسية، بل وربما أهمها على الإطلاق، سيادة قيم الديموقراطية وحركتها في الدولة. الديموقراطية: هي الوسيلة والأداة التي تتيح للشعب توكيد سيادته عن طريق تفعيل إرادته في حكم نفسه بنفسه ولنفسه، بعيداً عن أي محاولة للافتئات على حقه الطبيعي هذا من أية جهة، سواء كانت محلية أو خارجية.
الديموقراطية لا تحكمها نصوص دستورية، ولا أعراف غير مكتوبة، يمكن أن تتغير أو تتبدل مع الوقت أو حسب الظروف وفقاً للأهواء والمصالح. الديموقراطية: قيم عليا تمثل قواعد وأسس فوق دستورية تتصل مباشرة بحقوق وحريات الناس الطبيعية والمكتسبة، لا يمكن أبداً أن تُعزى لأي جهة أو قوة اجتماعية أو سياسية بعينها، يمكن أن تزعم كونها مصدرها.. أو مرجعيتها، أو أساس شرعيتها. الديموقراطية ليست دستوراً قد يُمنح من سلطة قاهرة.. أو يُنتزع من قبل ثورة شعبية عارمة، أو يُفرض من قبل قوة خارجية غازية.
من ناحية أخرى: الديموقراطية، قيمة وسلوك، ليست نتاجاً طبيعياً لحركة تطور المجتمعات، بل هي كحركة التاريخ نفسه، نتاج لصراع عنيف بين قوى متصارعة في داخل المجتمعات، يعكس مصالح متضاربة ومقاومة عنيفة من قوىً خلقت لنفسها، مكانة اجتماعية وقوة سياسية وامتيازات حصرية وحصانة منيعة، فرضتها - مع الوقت - على أسس غيبية أو قواعد مادية قاهرة، ما كان لها أن تتخلى عنها أو تساوم عليها بسهولة. بالتالي: الديموقراطية هي نتاج لمخاض تاريخي عسير مرت به مجتمعات الديموقراطيات التقليدية المعاصرة، ولا يمكن تصور محاكاتها في المجتمعات الحديثة الأخرى، كونها تجربة يمكن نقلها أو محاكاتها أو استعارتها، دون تطور ثقافة اجتماعية غير تقليدية قادرة على إحداث تنمية مستدامة تقوم على مشاركة سياسية فعالة وكفوءة تحكمها إرادة الناس وخياراتهم السياسية.
الديموقراطية، قيمة وسلوك، لا يمكن إذن: النظرة إليها على أنها «موظة» عصرية للتجمل السياسي والاستعراض المجتمعي الثقافي الخالي من الجوهر والمضمون. أي إدعاء زائف بالديموقراطية لا يمكن أبداً أن يغير من حقيقة أوضاع التخلف السياسي السائدة في كثيرٍ من مجتمعات العالم الثالث، التي تبالغ في التركيز على مظاهر وشكليات وطقوس الديموقراطية، كحركة ومؤسسات أو سلوكيات رموز، بعيداً عن جوهرها الإنساني، الذي يعكس الإرادة الإلهية، التي تدعو لاحترام كرامة الإنسان.. وعصمة دمه.. وصون حريته، والاحتكام لحقوقه الطبيعية والمكتسبة.
في كثير من مجتمعات العالم الثالث، إما مجاراةً زائفةً للتوجه الأممي نحو الديموقراطية.. وإما تنفيساً محلياً للدعوة لتغيير جذري لأسس الشرعية السياسية، أو خضوعاً وتملقاً لقوىً خارجية، هي في الأساس، ليس من صالحها إحداث تحول ديموقراطي حقيقي في مجتمعات دول العالم الثالث، نجد محاولات غير جدية تُجرى على استحياء، وأحياناً بـ «فجاجة» مقيتة، لإحداث تحول شكلي يركز على طقوس الديموقراطية وليس قيمها وجوهرها. هناك، إذن: ما يشبه الإذعان الشكلي لمطالب الحراك الاجتماعي الداخلي.. وما يبدو أنها ضغوط من قوى ديموقراطية خارجية، لتغيير مصادر الشرعية للنخب الحاكمة في تلك المجتمعات، تستند «شكلياً» لمبدأ السيادة الشعبية.
في كثير من دول العالم الثالث تتفاعل اليوم سلوكيات اجتماعية وسياسية، ليس من أجل إجراء تحولات ديموقراطية حقيقية، ترتكز على قيم الديموقراطية، بقدر ما ترمي لإحداث تغيرات شكلية تهتم بطقوس الديموقراطية، ليس من أجل تأكيد سيادة الشعب، بقدر ما هو ترسيخ لسطوة القوى التقليدية في المجتمع. في كثير من تلك الدول نجد هناك مؤسسات ورموزا سياسية، شكلياً قد تعكس إرادة الناس وخياراتهم، لكنها فعلياً ترسخ لنخب سياسية معينة قد يكون بعضها حديث عهد بالسلطة، جاء على أنقاض نخب ومؤسسات تقليدية كانت موجودة، وربما كان بعضها يتحرك بخطىً متثاقلة نحو الديموقراطية. هذا بالضبط ما فعله ويفعله العسكر، عندما جاءوا للحكم.. وكذلك ما فعلته بعض الثورات التي أتت بنخب سياسية إقصائية، حكمت مجتمعاتها بالحديد والنار، مثل الثورة البلشفية في روسيا، و«وثورة» الخميني في إيران.
لذا: قد نجد حركة ديموقراطية نشطة في بعض دول العالم الثالث، إلا أنها مفرغة تماماً من جوهر الديموقراطية وقيمها. مثل هذه الحراك «الديموقراطي» لا يعكس إرادة الناس وخياراتهم الحقيقية، بقدر ما يرسخ لسلطة نخب مستبدة، تدعي شرعية زائفة. قد نجد في تلك الدول برلمانات منتخبة.. وسلطة تنفيذية منتخبة.. وصيغة شكلية لمعادلة الفصل بين السلطات.. ودساتير تؤكد على سيادة الإرادة العامة وأنها أصل ومرجعية السلطات.. وانتخابات دورية «تنافسية» منتظمة.. وصحافة هي أقرب للـ «بوربوغاندا» منها للإعلام المهني الرصين. بالتوازي مع ذلك: تتفاعل سلطة قمعية غير متسامحة وضيقة الصدر تجاه أي رأي مخالف أو تحرك معارض، حتى ولو كان نشاطه دستورياً يتفاعل ضمن أُطر وقنوات قانونية وسلمية. في الوقت الذي تحاول فيه هذا السلطة القمعية، وبالقانون أيضاً، دون أي مشاركة سياسية فعالة، نحو تغيير سلمي لمؤسسات ورموز الحكم.
الديموقراطية قيمة وروح ومضمون، قبل أن تكون حركة مؤسسات أو سلوكيات رموز. لا يمكن للديموقراطية أن تسود، وتحقق الغاية الإلهية والإنسانية منها، بنشر الحرية والسلام مجتمعات البشر، إلا عن طريق سيادة قيمها.. تماماً كما يسيطر ويسير عقل الإنسان حركة أعضائه وسكنات جوارحه.
التعليقات