عبدالله بن بخيت

كانت الوسائل الإعلامية قبل سنوات قليلة تحت السيطرة الكاملة في كثير من بلاد العالم. مجرد قناتين وعدد محدد من الجرائد وإذاعة أو إذاعتين ومكتبات شحيحة. صنعت هذه التقييدات الإعلامية الضيقة تجانساً بين الناس ولكنها عجزت عن بلوغ الكمال. شابها كثير من الاختراقات والتمردات. فأنتجت حالتين من القبول؛ صادق ومنافق. إغلاق الناس على فكر واحد مستحيل مع الإعلام الجديد. تراجعت القيادات الثقافية المتنفذة وفقدت القدرة على السيطرة على الإعلام. حتى الحكومات باتت عاجزة عن استعادة استحكاماتها القديمة.

ما تأثير الإعلام المفتوح على العادات والتقاليد والأديان. في أيام الإعلام المغلق كان على الجميع أن يستمعوا للشيخ بأعلى درجات الاحترام والرهبة. لا يجوز نقده أو الاعتراض عليه لا أمامه ولا على أي منبر آخر.

انقلب الوضع رأساً على عقب. عشرات الباحثين الجاد منهم والعابث يخطئون الشيخ وينتقدونه وبعضهم يجهله. لا شك أن كثيراً من الناس ما زال حتى اليوم يحتفظ بالبرامج الفكرية التي أنزلت في رؤوسهم في زمن الإعلام المغلق لكن هذه البرامج لن تحدث وبعضها ستتم إزالته ببرامج تشكيك متنوعة.

لم يعد يوجد جهاز أو قوة تحبس الناس وتمجد الرأي الواحد. كما أن السوق لم يعد مربحاً لا مال ولا وجاهة. من يريد أن يعظ فليعظ وأجره على الله فقط. والأهم من كل هذا أصبح الاستماع اختيارياً. قيادات المجتمع توزعت على نواحي الحياة المختلفة. من يبحث عن معلومات ونصائح طبية سيجد طبيباً يتحدث، وهذا سينطبق على الأديب ومعلق الرياضة ورجل الدين والملحد وخبير التراث والكوميدي.. إلخ. لك أن تتخيل كم شخصاً جاء ينافس رجل الدين على المستمعين بعد أن كان وحده في الميدان ويملك القوة التي تفرض على الناس الاستماع إليه. أصبح رجل الدين واحداً من عشرات.

ما الذي سيحدث للناس بعد خمسين سنة على أبعد تقدير؟ هل سينتهي الدين أو أن يضعف إيمان الناس؟ خروج رجل الدين من سدة القيادة لا يعني أن يخرج الدين معه. الإيمان من طبائع النفوس. مهما كانت المزاحمة لن يخرج رجل الدين من المعركة نهائياً بل سيجلس في مكانه الصحيح. سيكون واحداً من أطراف عدة ودون قدسية تخصه. سيكون صاحب علم (مثل الطبيب والمهندس..) ومثلهما في القوة ومثلهما أيضاً في التعرض للنقد. سوف تختفي الخرافات والأساطير التي زودت بعض رجال الدين بسطوة على العقول تميزه عن زملائه من أهل العلم.

يقول مفكر فرنسي: إذا دخلت السلطة من الباب خرج الإيمان من النافذة.. إذا فقد رجل الدين سلطته وصار عرضة للنقد والمساءلة والمزاحمة سيترسخ الإيمان.