السيد ولد أباه 

خلال زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان للقاهرة في الأسبوع الماضي، تم إعلان الاتفاقية الثنائية المصرية- السعودية لإنشاء المشروع الاستثماري الضخم في منطقة البحر الأحمر المشتركة بين السعودية ومصر والأردن بما سيشكل تحولاً نوعياً في أوضاع البلدان الثلاثة، كما سيولد معادلة استراتيجية جديدة في المجال الإقليمي العربي، في مرحلة ضاع مفهوم الأمن القومي وانهار البناء الاندماجي العربي بكامله.

أهمية هذا المشروع تكمن في أنه يرمز لمنظور جديد في العمل العربي المشترك، بنقل المشروع القومي الاندماجي من التصور الأيديولوجي الحالم المفتقد لأدوات الإنجاز العملي إلى المنظور الاقتصادي الواقعي، الذي كان هو المدخل للبناء الأوروبي الحالي، الذي كثيراً ما يقدم نموذجاً للاحتذاء والتبني عربياً.

ويمكن القول إن الطموح الاندماجي العربي شهد مراحل عديدة، بدأت أولاها في الخمسينيات مع مشروع «الثورة القومية» الذي رفعته التجربة الناصرية، وقام على آليتين رئيسيتين هما:الآلية الأيديولوجية أي الفكرة القومية إطاراً ناظماً للبناء الإقليمي العربي، والمنظومة الأفروآسيوية إطاراً استراتيجياً لدور عربي فاعل في الساحة الدولية. وعلى الرغم من إخفاقات التجربة الناصرية، فإنها ساهمت دون شك في تعزيز الوعي القومي للمجتمعات العربية، وأدت دوراً حيوياً في دعم حركات التحرر العربية في الحقبة الاستعمارية، بيد أن مشروع «الثورة العربية» فشل إجمالاً في وضع التصورات الموضوعية العملية للبناء الاندماجي العربي. الأخطر من هذا كله أن الفكرة القومية، وظّفت من الأنظمة القومية العربية في ترسيخ الاستبداد السياسي والهيمنة الإقليمية، وفي البلدان التي حكمتها هذه الأنظمة وصل الوضع الداخلي إلى ذروة الاحتقان، وأصبحت راهناً على حافة التفكك كما هو شأن العراق وسوريا وليبيا.

وبداية من ثمانينيات القرن الماضي، ظهرت كتابات نقدية مهمة من داخل الفكر القومي دعت إلى إعادة تصور المقاربة العروبية الاندماجية من منظور المشاريع الوحدوية الناجحة في العالم، وفي مقدمتها المشروع الأوروبي. لقد بداً من الجلي أن الأطروحتين اللتين طبعتا في السابق الدعوات القومية وهما أطروحتا «الزعيم القائد» و«الإقليم - القاعدة» فشلتا في إحداث التحول المنشود إقليمياً وهما في الأصل من تأثير القومية الرومانسية الألمانية، التي ظهرت في القرن التاسع عشر، وتبنت التصور الثقافي التاريخي للأمة بصفتها روحاً جماعية وهوية أصلية، بحيث تكون الدولة الاندماجية تحققاً طبيعياً لوحدة الشعور والثقافة.

وغني عن البيان أن هذا التصور الرومانسي للأمة كان في منشأه ردة فعل على حركيّة التنوير الحديثة في مقاربتها الاصطناعية التعاقديّة للدولة من حيث هي التعبير الإرادي المشترك عن هوية متقاسمة على أساس حقوق المواطنة المتساوية، بما يفسر السمة السلطوية العنيفة التي طبعت المشاريع الوحدوية الألمانية من بسمارك إلى الحالة النازية.

في الفكر القومي العربي الراهن، أصبح المثال المنشود هو المشروع الوحدوي الأوروبي الجديد، الذي انطلق من بوابة المصالح الاقتصادية، بدءاً بالشراكة في مجالي الصلب والحديد في الخمسينيات، قبل أن يتوسع إلى المجال السياسي والاستراتيجي، ويتمدد إلى جل بلدان أوروبا، خصوصاً بعد انهيار جدار برلين وتحول بلدان أوروبا الشرقية إلى اقتصاد السوق والديمقراطية الليبرالية التعددية.

ومن هنا أهمية الشراكة الاقتصادية في إعادة تجديد المشروع الاندماجي العربي، بما يرمز له مشروع «نيوم» الذي يجب أن يكون نموذجاً للاحتذاء والتعميم، وقد يكون مدخلاً لحل الأزمات العربية الملتهبة.

في هذا الباب، نشير إلى جهود التحالف العربي في اليمن لتأهيل عدن لكي تصبح قاطرة للتنمية في اليمن وامتداداتها في القرن الأفريقي، بما يساعد على حل المعضلة اليمنية ويقطع الطريق أمام التدخل الخارجي في اليمن.

قد يكون من المفيد في السياق نفسه العمل على تحويل الحدود الكويتية العراقية إلى جسر تعاون وشراكة قوية بين البلدين لمحو آثار الماضي المأساوي من خلال شراكة اقتصادية قوية وناجعة، تتمحور حول مدينة البصرة ذات الارتباط المعروف بالإقليم الخليجي، وذات الدور التاريخي المحوري في المنطقة قبل العصر النفطي.

في المغرب العربي حيث القطار الوحدوي متعطل منذ عقدين، يمكن أن تشكل منطقة الصحراء الكبرى (بمفهومها الواسع)، التي تتداخل فيها حدود المغرب والجزائر وموريتانيا، مركز نمو هائل للإقليم بكامله بما تتوفر عليه هذه المنطقة من ثروات نفطية ومعدنية وأهمية استراتيجية بارزة بما يعزز من احتمالات تسوية نهائية للملفات العالقة منذ عقود، وفق الموازين الواقعية، وضمن حقائق التكامل والاندماج بين بلدان شمال أفريقيا.

لا يتعلق الأمر هنا بإعادة دفع مشاريع الاندماج الإقليمي التي تبلورت في الثمانينيّات، واعتبرت أوانها خطوات ضرورية في اتجاه الوحدة العربية الشاملة، ولم يصمد منها أمام الأزمات العاتية التي عرفها العالم العربي سوى مجلس التعاون الخليجي، وإنما إعادة تصور كاملة للفكرة الاندماجية العربية من منطلق الإدارة الواقعية والعملية لملفات التأزم في المنطقة.

لا بد من التأكيد هنا على أن المنطقة العربية تتعرض حالياً لاستقطاب حاد من القوى الأجنبية التي تستغل حالة «الخواء الاستراتيجي»، التي يعاني منها النظام الإقليمي العربي منذ سنوات للسيطرة على مراكز الفاعلية الاقتصادية والتأثير الاستراتيجي (روسيا وإيران وتركيا والصين)، بما يعزز مسؤولية الأطراف العربية الفاعلة في تحصين البناء القومي، وتدعيم مؤسسات العمل العربي المشترك من المنظور العملي المصلحي ذاته.

لقد فشلت الأيديولوجيا في توحيد العرب، بل زادت من تمزيقهم وإضعافهم، وليست الهويات الطائفية الصاعدة راهناً بالبديل الناجع، بل هي المعول الذي قوّض آخر حلقات الكيان السياسي العربي، فليكن الرهان على التكامل الاقتصادي، وما يرتبط به من مصالح استراتيجية، هو الدعامة الناجعة لمشروع عربي جديد، يُعيد للأمة الأمل في الوحدة والاندماج والأمن القومي.