وحيد عبد المجيد

لم يكن متصوراً عندما أُنشئت منظمة التجارة العالمية عام 1995، بهدف تحرير المبادلات بين الدول والحد من قيود السياسات الحمائية، أن يخيم خطر حرب تجارية على العالم، خاصة بعد التقدم الكبير الذي حدث في مجال حرية التجارة منذ ذلك الوقت. كما لم يكن متخيلاً أن يظهر هذا الخطر بسبب إجراءات تتخذها الولايات المتحدة، وهي التي لعبت أهم دور في العمل من أجل تحرير التجارة العالمية.

والمفارقة المثيرة هنا، أن بعض الدول التي تطالب واشنطن اليوم بالالتزام بقواعد منظمة التجارة العالمية، كان عليها أن تنال قبولاً أميركياً للانضمام إليها. فلم تنضم الصين، مثلاً، إلى هذه المنظمة، إلا بعد أن أقنعت الولايات المتحدة باستعدادها للالتزام بحرية التجارة، وتوقفها عن اتباع سياسة حمائية من النوع الذي اتجهت إليه إدارة الرئيس ترامب بقرارها فرض رسوم على واردات الصلب والألومنيوم بنسبة 25% و10%، على التوالي.

وتدل ملابسات هذا القرار، وخلفياته، على أنه لا يهدف إلى شن حرب تجارية، بل إلى الضغط على بعض شركاء الولايات المتحدة التجاريين من أجل تغيير ما يعتبره الرئيس ترامب سياسات تجارية غير عادلة ألحقت الضرر بالصناعات الأميركية والعاملين فيها. فهو يرى أن العلاقات التجارية الحالية غير عادلة، وأن الولايات المتحدة تتعرض لاستغلال متزايد، الأمر الذي يفرض اتخاذ إجراءات لحماية صناعاتها وتنشيطها وخلق وظائف جديدة.

لكن رغم أن ترامب لا يسعى إلى حرب تجارية، فقد صار شبح هذه الحرب مخيماً على العالم، ومُهدَّداً بتراجع معدلات النمو الاقتصادي، وخلق حالة ركود أو زيادتها. ولذا لا يخرج أحد رابحاً من حرب تجارية.

لكن حجم خطر هذه الحرب سيترتب على طبيعة ردود الفعل العملية على القرار الأميركي، وخاصة من جانب القوى الاقتصادية الكبرى، وفي مقدمتها الصين والاتحاد الأوروبي. وربما تبدأ اتجاهات ردود الفعل هذه في الظهور خلال قمة الاتحاد الأوروبي التي ستُعقد في بروكسل في 22 و23 مارس الجاري، في أجواء يسودها ميل إلى التصعيد. وقد عبّر «دونالد ناسك»، رئيس المجلس الأوروبي، عن هذا الميل عندما تحدث قبل أيام عن ضرورة حماية الأوروبيين عبر ردود فعل مناسبة تنسجم مع قواعد منظمة التجارة العالمية.

فإذا اتخذ الاتحاد الأوروبي إجراءات حمائية تجاه بعض واردات دوله من الولايات المتحدة، وفعلت الصين مثله، وردت واشنطن بفرض مزيد من الرسوم.. يُرجح أن تنشب حرب تجارية تحمل في طياتها الأضرار التي تنتج عادةً عن السياسات الحمائية. وتفيدنا الخبرات السابقة أن هناك ثلاثة أضرار أساسية لهذه السياسات.

أولها: إنها تُضعف الصناعة المحلية على المدى المتوسط، حتى إذا أفادتها في الأمد القصير، نتيجة عدم وجود منافسة حقيقية تدفعها إلى التجديد والتطوير. ويعود ذلك إلى أن فرض رسوم على الواردات المنافسة يرفع أسعارها مقارنة بالمنتجات المحلية المماثلة، فيغدو الأمر سهلاً بالنسبة إلى الصناعات المحمية.

والضرر الثاني أن السياسة الحمائية تُضعف صناعات محلية أخرى غير محمية، لكنها تعتمد على مكونات مستوردة يؤدي فرض رسوم عليها إلى زيادة أسعارها، وبالتالي ارتفاع تكلفة الإنتاج في تلك الصناعات.

وينطبق ذلك في الحالة الأميركية على الصناعات التي تعتمد في مكوناتها على الصلب والألومنيوم اللذين سترتفع أسعارهما، وسينعكس هذا الارتفاع على تكلفة الإنتاج، الأمر الذي يُضعف قدرتها التنافسية في العالم. والمتوقع أن تكون صناعة السيارات الأميركية الضحية الأولى لفرض رسوم على واردات الصلب والألومنيوم.

أما الضرر الثالث، فهو أن السياسة الحمائية يمكن أن تقلل فرص العمل في بعض الصناعات المحلية غير المحمية التي تعتمد على مكونات مستوردة. ولذا لا يوجد ما يضمن أن يؤدي خلق فرص عمل جديدة في الصناعات المحمية إلى زيادة العدد الكلي للوظائف.

والحال أن العالم لم يُقبل على سياسات تحرير التجارة إلا بعد تجارب عدة أكدت فشل السياسات الحمائية التي تُقيد المبادلات، سواء في الدول الاشتراكية التي تشددت إلى أقصى حد فيها، أو حتى في الدول التي تبنتها جزئياً. ولذا يظل الأمل قائماً في تجنب العودة إلى هذه السياسات في ظروف تجعلها أخطر من ذي قبل إذا أدت إلى حرب تجارية لا مصلحة لأحد فيها. وربما يكون مفتاح هذا الأمل لدى بكين التي قد يكون عليها أن تراجع مسار علاقاتها التجارية الدولية لتكون أكثر عدالة، ولدى واشنطن التي يتعين عليها خفض سقف مطالبها في رؤيتها لهذه العدالة، وتبني منهج تدريجي في السعي إليها.