مصطفى الفقى

 تحتفل فرنسا هذه الأيام ببداية الذكرى الخمسين بعد المائة لافتتاح قناة السويس باعتبارها البلد الذى ولد فيه المشروع بصورته النهائية كما أنها موطن (فرديناند ديليسبس) ومقر الشركة قبل تأميمها وذلك يدعونا إلى تأمل العلاقة الجدلية بين قناة السويس والدولة المصرية متذكرين العبارة الشهيرة (إننا نريد القناة لمصر لا مصر للقناة)، وليسمح لى القارئ بأن أطرح الملاحظات الآتية:

أولًا: إن الطبيعة الجغرافية التى سمحت بإمكانية توصيل البحرين الأحمر والأبيض على الأرض المصرية هى طبيعة سخية أرادت أن تعطى لمصر بالإضافة إلى كل ما لديها عاملًا جديدًا للتميز وسببًا آخر لقيمتها المتزايدة إقليميًا ودوليًا، ورغم أن شق قناة السويس قد مر بمراحل مختلفة عبر العصور ولم تكن الفكرة جديدة عندما ناقشها محمد على ومن بعده ابنه محمد سعيد إلا أن تلك الفكرة ظلت أقرب إلى الحلم فى أدبيات الجغرافيا ومفردات التاريخ إلى أن تمكن ذلك الفرنسى الداهية من إقناع الخديوى عاشق (المكرونة) بالتوقيع على عقد شق القناة فى خمسينيات القرن التاسع عشر، واعتمد فى ذلك على الجندى المجهول (الفلاح المصري) العظيم والعامل الصامد الصبور الذى بنى الأهرامات فى فجر التاريخ منذ آلاف السنين وحفر القناة فى القرن التاسع عشر، وشيد السد العالى فى القرن العشرين، إنه ذلك المارد الذى لفحته الشمس الحارقة وصفعته البرودة العابرة، ولكنه ظل قويًا يتمتع بذكاء اليدين على حد تعريف مؤرخ الجغرافيا الراحل د.سليمان حزين، لذلك فإن فكرة شق قناة السويس وتطورها ثم تنفيذها تدل فى مجملها على إرادة المصريين قبل غيرهم إذ كان يمكن أن تظل الفكرة حبيسة الأدراج كمجرد طرح نظرى فى أضابير من اهتموا بها وسعوا لإنشائها، ولكن الاعتماد على العنصر المصرى كان دائمًا هو فصل الخطاب فى الأعمال الكبرى والإنجازات العظمى للدولة المصرية.

ثانيًا: إن مصر قد دفعت ثمنًا غاليًا لحفر القناة إذ أنه فضلًا عن مائة ألف شهيد ممن دفنوا تحت رمالها فإنها أيضًا قد أججت الصراع حول الوطن المصرى وأحالت مصر إلى مركز استقطاب عالمى تحيطه الأطماع وتكثر فيه الضغوط وظلت قناة السويس رقمًا صعبًا فى المعادلة الدائمة للاستقلال الوطنى فى مصر، خشى من استخدامها أحمد عرابي، وتصدى لها الزعيم القومى عبد الناصر بالتأميم الذى كلف مصر حرب السويس عام 1956، وقد يقول البعض من منتقدى الناصرية لماذا أقدم الرجل على تأميم القناة عام 1956 ولم يكن أمامها إلا ثلاثة عشر عامًا لكى ينتهى عقد امتيازها البالغ مائة عام؟! والرد هنا سهل وبسيط وهو أن من يقولون ذلك ينظرون إلى الأحداث بعد التأميم، وليس قبله فمن المؤكد أن الدول الأوروبية الكبرى خصوصًا فرنسا وبريطانيا كانتا سوف تسعيان إلى مد الامتياز لفترة أخري، فضلًا عن أن التأميم قد أكد مصرية القناة وجعل منها رافدًا وطنيًا يستحيل التشكيك بشأنه، وعندما سقطت القناة فى منطقة الاحتلال الإسرائيلى بعد نكسة عام 1967 فإن العبور العظيم الذى قاده رجل الدولة أنور السادات قد جعلنا مرة أخرى أمام علامة مضيئة لذلك المرفق الحيوى الذى نعتز به على أرضنا ونفاخر بقيمته لدى وطننا، ويجب أن نؤكد هنا أن تأميم القناة كان بمثابة إعلان واضح بأن القناة لمصر وليس العكس، وقد لا يعرف الكثيرون أن عبد الناصر قَبِل مبدأ التعويض للأطراف الأخرى فى الشركة بل ودفع بعض التعويضات فى ذلك كما تنازل عن مبنى مقر الشركة فى باريس فقد كان مملوكًا للدولة المصرية رغبة منه فى إقرار مبدأ التأميم العادل دون الإجراء التعسفي، ورغم ذلك تكالبت قوى العدوان عليه وباشرت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل حربًا على مصر انتهت بانتصار سياسى لها بغض النظر عن تضحياتها العسكرية والمدنية.

ثالثًا: إن اتفاقية القسطنطينية عا م 1888 قد أعطت مصر سلاحًا قانونيًا يمكنها استخدامه عند الضرورة بأن جعلت حقها مكفولًا بمنع مرور السفن القادمة من أو المتجهة إلى أية دولة أخرى تكون فى حالة حرب مع مصر سواء أكانت تلك هى سفنها أو البضائع التى تحملها متجهة إليها، كما أن لمصر حق التفتيش فى الممر المائى والسفن العابرة فيه لضمان عدم نقل مواد ضارة, لذلك فإن عبور السفن التى تحمل مواد نووية يأتى فى إطار اتفاق خاص وليس حقًا مطلقًا للدول الكبرى مهما كان قدرها، ولذلك فإنه يجب أن يستقر فى عقل المصريين أن هذا الحق لمصر يعطيها المشروعية لإغلاق القناة فى وجه أية دولة تعاديها إلى حد حالة الحرب, سواء أكان ذلك فى شرق إفريقيا أو على سواحل البحر الأحمر وشواطئ البحر الأبيض على السواء بل ويمتد الأمر إلى أية دولة تدخل فى حالة حرب مع الدولة مالكة القناة وصاحبة القرار السيادى عليها لأن مصر يا (سادة) قد دفعت ثمنًا غاليًا فى حفر القناة والدفاع عنها وصيانتها، وسوف نظل نذكر لأصدقائنا فى اليونان أن المرشدين من بلدهم العريق كانوا هم من أداروا حركة القناة عقب التأميم بعد انسحاب المرشدين من جنسيات الدول الرافضة لقرار التأميم، والذى نص صراحة فى خطاب عبد الناصر نفسه على تعويض حملة الأسهم بسعر بورصة باريس فى اليوم السابق على التأميم.

إن الاحتفال بمرور مائة وخمسين عامًا على حفر القناة يجب أن يكون مكانه مصر، وأن نعطيه قدره من الاهتمام لأن القناة ملحمة مصرية قبل أن تكون شركة عالمية فقد امتزجت فيها الدماء بالأشلاء واختلطت فيه القرارات بالمواجهات، وخرج الشعب المصرى فى النهاية ليؤكد سيادته ويسجل بطولته التى لم تتوقف على مر الأيام.