علي نون

يتوجّس كثيرون من توسّل إيران الإمساك بالشرعيّتين بعد الشارعين، في البلدين «العزيزين» لبنان والعراق، من خلال الانتخابات التشريعية. والتي يُفترض من حيث المبدأ أن ترسم شكل السلطة التنفيذية وهويّات أهلها.

لكن المبدأ العام الخاص بآليات تداول السلطة عن طريق صناديق الاقتراع والتصويت المباشر، غير مُقرّ أو مُعترف به أساساً من قبل قيادة طهران وأتباعها في بغداد وبيروت، وفي الإجمال وأينما كان.. بل ليس مألوفاً ولا معروفاً عن «صادرات» إيران اشتمالها على «أدوات» مُشتقّة من الدساتير والشرائع والحدود السيادية، أو من احترام قصّة تداول السلطة هذه من ألفها إلى يائها!

«الصادرات» الإيرانية، الأصلية وليست المقلّدة، تنطلق من مصنعين كبيرين. الأول هو السلطة المطلقة لـِ«المرشد» بما يعنيه ذلك من تحويل الانتخابات العامة إلى بهرجة شكلية لا تُقدّم ولا تؤخّر شبراً واحداً في آلية اتخاذ القرار، وفي توزّع الصلاحيات، وفي تحديد السياسات العامة الكبيرة والصغيرة والاستراتيجية والتكتيكية! والثاني، هو الازدواجية السلاحية القائمة من خلال سردية «الحرس الثوري» في موازاة الجيش النظامي، والعمل بدأب وجُهد وإمكانات ضخمة من أجل إشاعتها أينما أمكن!

حصل ذلك في لبنان أولاً وتحت ستار «مقاومة» إسرائيل. قبل أن يتبيّن أن لـِ«حزب الله» أدواراً أوسع مدى من تلك الخاصّية، محلياً وإقليمياً.. وأمنياً وقتالياً وتعبوياً! ثم حصل ذلك في العراق غداة سقوط نظام صدام حسين من خلال إنشاء وتفريخ العشرات من البنى الميليشيوية وأيضاً تحت ستار «مقاومة الاحتلال الأميركي»، وصولاً إلى «الحشد الشعبي». ثمَّ حصل الأمر ذاته مع بني حوث في اليمن! ويحصل ذلك منذ العام 2011 في سوريا برغم الاستثناء المتأتي من حقيقة وصول النفوذ الإيراني إلى دواخل التركيبة العسكرية والأمنية الأسدية... وحتى في الشقّ الفلسطيني، وَجَدت الازدواجية سبيلها من خلال «دعم» «حماس» و«الجهاد الإسلامي» في وجه السلطة الوطنية وأجهزتها ومؤسساتها، قبل أن تنضج الجغرافيا وتصل إلى ثنائية غزة والضفة!

وبقدر ما «تحترم» القيادة الإيرانية نتائج العملية الانتخابية في أرضها، كأن تسمح مثلاً لرئيس الجمهورية أن يُمارس صلاحياته بعيداً عن الأوامر والتوجيهات والفتاوى «النازلة» من عند «المرشد»، فإنّ عمّالها وأتباعها وحلفاءها ينخرطون، كلٌّ في مكانه، في لعبة الاحتكام إلى صناديق الاقتراع لكن تحت سقف شديد الوضوح: التسليم بالنتائج إذا كانت لمصلحتهم، والعودة إلى صناديق الذخائر والصواريخ، إذا كانت لمصلحة الآخرين!

حصل ذلك عندنا في لبنان وعلى دفعتين: في انتخابات العام 2005، وانتخابات العام 2009! فازت 14 آذار لكنها لم تفز بالقرار! مع أنّ الأخيرة (2009) جرت على وقع نظرية شهيرة أطلقها الأمين العام لـِ«حزب الله» السيد حسن نصرالله شخصياً آنذاك، مفادها العام «فليحكم وحده من يفوز».. وطبعاً كانت حساباته وتوقعاته واستطلاعاته تقول إن فريقه المحلي الإيراني – السوري هو الذي سيفوز و«يحكم وحده» قبل أن تكذّب النتائج تلك القراءات وتفرض العودة إلى مبدأ: صندوق السلاح «أقوى» من صندوق الاقتراع!

.. وحصل ذلك في العراق: فازت لوائح أيّاد علاّوي في انتخابات العام 2010، لكن جاء نوري المالكي، «زلمة» إيران، رئيساً للوزراء! وبتواطؤ مكشوف بين طهران وإدارة السيّئ الذكر باراك أوباما!

زبدة القول وفحواه أنّ المشكلة مع إيران وأتباعها أكبر من الانتخابات. وقبلها وبعدها، وفوقها وتحتها. ومع ذلك وبرغم منه: واجب شرعي مُقدّس الذهاب إلى صناديق الاقتراع لتثبيت بديهة سيادية وطنية لبنانية، مفادها أنّ لبنان الدولة والكيان والمكوّنات والمؤسسات ليس ساحة مستباحة لإيران ومشاريعها ومشاكلها وكوارثها، بل وطن لأهله، مفتوح على الشمس والحرية والعالم والحياة. وجزء لا يتجزّأ من محيطه العربي العام، ولن يخرج من ثيابه! ولن يُجيّر قراره لطهران! ولن يسمح لها باستباحة شرعيّته بعدما استباحت شارعه، مثلما لن يسمح لها بتكسير مصالحه من أجل مصالحها!