مصطفى الفقي
كتب الصديق العزيز الأستاذ «زياد الدريس» وهو مثقف سعودي مرموق فضلاً عن أنه كان سفيراً للمملكة لدى «اليونيسكو» لعدة سنوات، وقد شاركت شخصياً في احتفال «اليونيسكو» بيوم اللغة العربية عام 2014 بدعوة كريمة من مندوب المملكة العربية السعودية في اليونيسكو، وهو صاحب المقال الذي نعلق عليه تقديراً لصاحبه واعتزازاً بالدولة الشقيقة التي ينتمي إليها، لقد أثار هذا المقال الذي كتبت حول موضوعه عدة مقالات في الصحف العربية والمصرية على امتداد السنوات الأخيرة لديّ اهتماماً خاصاً، لذلك رأيت أن أدلي بشهادتي في هذا الشأن لعلها تعين في بلورة رؤية شاملة تجاه هذا الأمر الجاد..
وروايتي تبدأ من ذلك الصباح البيروتي المشرق في فصل الشتاء منذ عدة أعوام، حيث عقد صاحب السمو الملكي الأمير «خالد الفيصل» راعي مؤسسة الفكر العربي ومؤسسها ورشة عمل مهمة، وكان يدور موضوعها حول أزمة التعليم في الوطن العربي في وقت تدنى فيه دور المدرسة في بلادنا، وقد طلبت الكلمة في الجلسة الختامية التي ترأسها صاحب السمو الملكي خالد الفيصل رئيس مؤسسة الفكر العربي، وحضر اللقاء وجلس بجواره على المنصة الأستاذ «تمام سلام» الذي كان وزيراً للثقافة اللبنانية حينذاك قبل أن يصبح رئيساً لوزراء ذلك البلد الجميل، وقد قلت في مداخلتي «إننا نتطلع إلى عقد قمة عربية ثقافية أسوة بالقمة العربية الاقتصادية»، وطرحت وجهة نظري التي دفعتني إلى تبني ذلك الاقتراح الذي لم يكن مسبوقاً في حينه، وذلك منذ عشر سنوات مضت تقريباً، ولقد استقبل الحاضرون ذلك الاقتراح بترحاب شديد وأثنى عليه صاحب السمو رئيس المؤسسة كما علق الوزير «تمام سلام» بالتأييد، ثم جاء صوت مبادر ورائد في هذا السياق هو الأستاذ «محمد سلماوي» رئيس اتحاد الكتاب العرب الذي تصادف وجوده في ليبيا لحضور مؤتمر للاتحاد، وبذلك تعززت الفكرة وازدادت تأثيراً فدعا السيد «عمرو موسى» أمين عام جامعة الدول العربية حينذاك كافة الأطراف مع كوكبة متألقة من المفكرين والمثقفين والأدباء والفنانين، يتقدمهم جميعاً الأمير «خالد الفيصل» الذي ولدت الفكرة في أحد مؤتمرات مؤسسته، وقد كان اجتماعاً موسعاً في مقر الجامعة العربية في القاهرة لمناقشة الفكرة وتقليب أبعادها من كافة الاتجاهات، وأشهد أنه كان لقاءً ثرياً ومتميزاً، وقرر الأمين العام للجامعة رفع الفكرة إلى القمة العربية المقبلة في الجزائر وهي التي دفعت بتوصية سابقة على «قمة الظهران» العربية بما يقرب من عشر سنوات، وعندما تولى الدكتور نبيل العربي منصب أمين عام الجامعة دعاني إلى لقائه بحضور الديبلوماسية المسؤولة عن الملف الثقافي لمواصلة التفكير في اقتراحي بعقد قمة ثقافية عربية، وبعد مناقشة وحوار رأى الأمين العام للجامعة أن عقد قمة ثقافية مستقلة أمر صعب التحقيق لأنه يتطلب جهداً ومالاً ليسا متاحين في وقتها، واقترح الدكتور «نبيل العربي» أن يكون الملف الثقافي في صدارة جدول أعمال قمة عربية مقبلة دون الانفراد بقمة كاملة تدور حول قضية الثقافة العربية بأحوالها ومستقبلها، ثم طغت أحداث الربيع العربي على الموضوع برمته ونامت الفكرة بين أضابير وملفات الجامعة وتدفقت مياه كثيرة لتعبر بنا في ميادين اهتمامات أخرى، ولقد واصلت الكتابة حول فكرة تلك القمة في الصحف المصرية وفي صحيفتنا الغراء (الحياة الدولية) إلى أن أسعدني مقال صديقي العزيز «زياد الدريس» بمحتواه وأبعاده وآفاقه، ولعلي أطرح هنا الدوافع التي أسوقها لتبرير الحاجة إلى عقد تلك القمة متمثلة في النقاط التالية:
أولاً: إن العامل الثقافي يكاد يصبح هو قاطرة العلاقات الدولية المعاصرة، إذ إن الخلافات الكبرى والأزمات المتعاقبة لم تعد أسبابها اقتصادية فحسب، بل أصبح للهوية الوطنية والبعد القومي تأثيرهما الواضح من منطلق ثقافي بالدرجة الأولى فكان طبيعياً أن يتجلى تأثير العامل الثقافي وأن تصبح له أهمية كبرى تزداد وضوحاً يوماً بعد يوم.
ثانياً: إن مفهوم (العولمة) بما تمهد له من انسياب للسلع والأفكار والخدمات دون تدفق مماثل في حركة البشر يجعل فلسفة العولمة ذات طابع ثقافي لا يختلف عليه اثنان، حيث تؤدي إلى سقوط الحواجز واختراق الحدود والتمهيد لمواطن عالمي تتشابه صفاته وتتلاقى أفكاره، ولكنه يظل أسيراً لدائرة ثقافية معينة قد لا يبرحها.
ثالثاً: إن صراع الحضارات ومحاولة خلق أعداء جدد في ظل ما بشر به «صموئيل هنتنجتون»، حيث اكتشفنا فجأة أن الحضارات أصبحت في حالة صدام ولم يعد لها ذلك الزخم الراقي الذي تميزت به قبل ذلك بسنوات، خصوصاً أن الثقافة تجمع ولا تفرق، تبني ولا تهدم وتتجاوز الحدود وتعبر المحيطات، إن هذا المفهوم الجديد يصور الأمر وكأنه صراع ثقافي بالدرجة الأولى.
رابعاً: إن الحرب على الإرهاب هي في حد ذاتها مواجهة ثقافية، ويكفي أن نتذكر الرئيس الأميركي الأسبق «جورج دبليو بوش» وهو يجلس في مكتبه البيضاوي في البيت الأبيض يتلقى أخطر خبر في القرن كله بضرب برجي التجارة عن طريق هجمة إرهابية، لا يزال يدور حولها جدل واسع، ذلك لأنها تأتي نتيجة هوة ثقافية سحيقة، فأين ذلك الذي يتجول بين جبال «تورا بورا» من ذلك الجالس على عرش العالم في البيت الأبيض الأميركي؟ إنها مسافة واسعة تخلق فجوة يصعب تجسيرها، ولذلك فإنني ممن يظنون أن مسألة الإرهاب ذات بعد ثقافي من الدرجة الأولى، ذلك لأنها تعبر عن محصلة الشكوك والمخاوف بين كيانات مختلفة وهويات متباينة.
خامساً: إن محنة اللغة العربية هي قضية أتفق فيها مع الدكتور زياد الدريس في مقالته سالفة الذكر، خصوصاً أنها تذكرني بدعوته الكريمة لمشاركة وفد بلاده في احتفال اليونيسكو بيوم اللغة العربية الثامن عشر من كانون الأول (ديسمبر) من كل عام، ولأن لغتنا تكاد تكون هي أكثر لغات الأرض ثراء بالمفردات والمرادفات والصور الجمالية، فإننا نتحمل المسؤولية الأولى في الحفاظ عليها والارتقاء بها، فأمة تملك مثل هذه اللغة يجب أن تدفع بها إلى مواقع الصدارة باعتزاز كامل واهتمام دائم وحرص شديد.
سادساً: لقد اكتشفت من تجربتي سفيراً لبلادي في العاصمة النمساوية «فيينا» أن السلعة الثقافية والتراث الإنساني هما أغلى ما تملكه الدول خصوصاً عندما تصدرها سياحياً وتوظفها اقتصادياً، ولقد كان معرض فرعوني واحد يهز أرجاء العاصمة النمساوية ويوفر جهد عشرات الديبلوماسيين ويقدم الصورة الرائعة للوطن، ويجب أن نتذكر أننا أمة غنية بآثارها متميزة بتراثها، لأنها جاءت من سبيكة حضارية على أنقاض ثقافات كبرى كالفرعونية والفينيقية والعربية القديمة، فضلاً عن التماس المباشر مع الحضارتين اليونانية والرومانية ناهيك عن الامتزاج بالأعراق الآسيوية والدماء الأفريقية.
سابعاً: إن أرضنا هي أرض الرسالات السماوية التقت عليها الديانات وامتزجت فوقها الثقافات وتواصلت عندها الحضارات فيصبح من الطبيعي أن تمسك مثل هذه الأمة بتلابيب العامل الثقافي الذي يعطيها ميزة نسبية يصعب الجدال حولها أو التشكيك فيها، خصوصاً إذا أدركنا أن الحضارة نسق ثقافي يقوم على مجموعة من النسب تجسدها الآداب والفنون، وتجعل منها في النهاية سبيكة واحدة يتطلع إليها الجميع.
هذه دفوع نطرحها للدفاع عن هويتنا العربية وثقافتنا القومية داعين إلى عقد قمة عربية تضم ولاة الأمور وأصحاب القرار إلى جانب كبار المثقفين وقادة الرأي في مجتمعاتنا العربية، فنحن أولى الأمم للاجتماع حول مائدتنا الثقافية خصوصاً وأنني أظن أن جزءاً كبيراً من مشكلاتنا الداخلية هي ذات طبيعة ثقافية، كذلك فإن خلافاتنا الخارجية تتصل في شكل أو بآخر بالبعد الثقافي وبحالة التعالي والتجبر التي تلبست بعض القوى المعاصرة وجعلت داء الهيمنة وسرطان النفوذ، يبدو وكأنه يؤكد أن لا مفر من التفاوت في السيادة حتى أضحت كثير من الأمم العريقة في المؤخرة وتصدرت دول حديثة المقدمة في عصر ضاعت فيه الحقوق وتراجعت الشرعية الدولية، واحتشدت في متاحف الغرب خلاصة الفكر الإنساني من «رأس نفرتيتي» إلى «حجر رشيد» إلى عشرات النماذج من التراث الإسلامي الكبير، ونحن نمضي على طريق نستحق أفضل منه ونتطلع إلى ما هو أرقى لنا ولأجيالنا القادمة وعلي من يتشكك فيما نقول أن يطوف بالأهرام و «معبد الكرنك» أو أن يتجول في أطراف «مدائن صالح السعودية» أو يذهب إلى «البتراء الأردنية»، ناهيك عن حضارة «بابل الآشورية»، بقي أن نقول إن عملية نهب المتاحف وسرقة الآثار خصوصاً في غضون ما سمي بالربيع العربي تمثل دافعاً إضافياً يعزز الدعوة إلى القمة العربية الثقافية لإنقاذ آثارنا المنهوبة والدفاع عن تراثنا الذي هددته أطماع الإرهابيين وجرائم المرتزقة، فضلاً عن عمليات السطو المنظم التي مارستها قوى أخرى حاولت العبث بتراثنا وإضعاف ثقافتنا، لقد حان الوقت لكي نصحو وندق جرس الإنذار لحماية الثقافة العربية ودعمها والدفع بها لتحتل موقعها اللائق بين حضارات الأمم وثقافات الشعوب.
التعليقات