جمال سند السويدي
في الرابع عشر من أبريل 2017، قالت وكالة «China Daily» الصينية، إن طفلاً كان قد اختُطِف من أهله منذ 27 سنة عاد إلى عائلته بفضل برنامج تكنولوجي متقدم للتعرُّف إلى الوجوه استخدمته الشرطة، وفي عام 2016 تم الكشف عن جريمة قتل جرت في ألمانيا قبل 34 عاماً بفضل التقدم التكنولوجي في مجال تحليل الحمض النووي «دي إن أيه»، وفي التاسع من يناير 2018 أعلنت شرطة نيويورك معرفة الجاني في جريمة اغتصاب حدثت قبل 23 سنة؛ بفضل التقدم الذي حدث في تقنية تحليل الحمض النووي كذلك، حيث لم تكن هذه التقنية موجودة وقت وقوع الجريمة في عام 1994.
لكن العلاقة بين التطور التكنولوجي والأمن لا تسير على هذه الوتيرة الإيجابية على الدوام، حيث قالت وكالة الشرطة الأوروبية «يوروبول»، في تقريرها لعام 2017 الذي جاء تحت عنوان
“Serious and Organized Crime… Threat Assessment, Crime of The Age of Technology”، إن التكنولوجيا يتم استخدامها في جميع أنواع الجريمة المنظمة تقريباً، وإن المجرمين يطوِّعون منجزات الذكاء الاصطناعي لتنفيذ جرائمهم. وفي السياق نفسه قال تقرير أعدته شركة «مكافي» لبرامج أمن المعلومات بالتعاون مع مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، ونُشِر في فبراير 2018 تحت عنوان “Economic Impact of Cybercrime- No Slowing Down”، إن جرائم الإنترنت تكبّد الاقتصاد العالمي خسائر سنوية قيمتها 600 مليار دولار، تمثل ما يقارب 1% من الناتج الإجمالي العالمي، وتوقع التقرير استمرار النمو في جرائم الإنترنت، وأن المجرمين سوف يستفيدون من أدوات الذكاء الاصطناعي في جرائمهم، ما يزيد من تكلفة الحماية الإلكترونية من قبل المؤسسات والشركات. وفي الدورة الرابعة لمعرض ومؤتمر الخليج لأمن المعلومات «جيسيك» في دبي في مايو 2017، قدّر خبراء خسائر العالم جرّاء الجريمة الإلكترونية بنحو 650 مليار دولار، وأن هذا الرقم يمكن أن يرتفع في عام 2020 إلى أكثر من تريليون دولار. ووفقاً لـ «تقرير نورتون للأمن السيبراني 2017» الذي صدر في يناير 2018 عن شركة «نورتون» التابعة لشركة «سيمانتك» للأمن الإلكتروني، فإن الأفراد المتضررين من الجرائم الإلكترونية في عام 2016 تكبّدوا خسائر إجمالية وصلت إلى 172 مليار دولار، وأن متوسط ما خسره الفرد على مستوى العالم 142 دولاراً، وفي دولة الإمارات العربية المتحدة 1.10 دولار.
ويشير ما سبق بوضوح إلى العلاقة الملتبسة والمعقَّدة بين التطور التكنولوجي ومستجدات الذكاء الاصطناعي من ناحية، والأمن من ناحية أخرى؛ ففي الوقت الذي تساعد فيه التقنيات التكنولوجية والعلمية الحديثة على سرعة الكشف عن الجرائم، ومنع بعضها، ومحاصرة مرتكبيها، كما سبقت الإشارة، فإنها تسهم، على الجانب الآخر، في خدمة الجريمة من خلال ما توفره للمجرمين من تقنيات تساعدهم على سهولة ارتكاب جرائمهم من ناحية، وإخفاء هذه الجرائم عن أعين الأجهزة المعنية من ناحية أخرى. وهذا هو مصدر التحدي الكبير بالنسبة إلى الأجهزة الأمنية في الدول المختلفة؛ حيث إن عليها أن تعمل على الاستفادة من التكنولوجيا في تقليل الجريمة، وفي الوقت نفسه التعامل مع الجرائم الجديدة المصاحبة للتطور التكنولوجي، وما يقدمه هذا التطور من «خدمات» إلى المجرمين، سواء كانوا أفراداً أو جماعات.
جرائم جديدة
وفي هذا السياق يمكنني، في هذه المساحة الصغيرة، أن أتناول العلاقة بين التطور التكنولوجي والذكاء الاصطناعي من ناحية، والأمن من ناحية أخرى، على أكثر من مستوى كالآتي:
أولاً- خلق جرائم ومصادر تهديد أمنية جديدة: فلا شك في أن التطور التكنولوجي أسهم ويسهم، بشكل مباشر أو غير مباشر، في إيجاد جرائم جديدة لم تكن معروفة من قبل، وأهمها الجرائم الإلكترونية التي تؤدي إلى تداعيات خطيرة وأحياناً كارثية، ومنها سرقة البنوك من خلال اختراق حسابات العملاء إلكترونياً، وسرقة المعلومات، وتخريب الأنظمة الإلكترونية التي تقوم بتشغيل المرافق المهمَّة مثل محطات المياه والكهرباء (الحروب الإلكترونية)، والهجمات التي تتعرض لها الحواسيب الشخصية، وتجارة البشر وغسل الأموال عبر الإنترنت، وغيرها. ولعل من الأمثلة الخطيرة في هذا الخصوص ما أشارت إليه شركة «كاسبرسكي لاب» للأمن الإلكتروني (Kaspersky Lab)، في أبريل من عام 2018، من أنه قد تمت سرقة مليار دولار من الكثير من البنوك حول العالم خلال عامين فقط عبر عمليات سطو إلكتروني على حسابات هذه البنوك، وفي تقرير الشركة نفسها في فبراير 2018 حول الهجمات الإلكترونية التي تعرض لها القطاع المالي في العالم عام 2017، جاء أن نسبة الاحتيال المالي عبر الإنترنت ارتفعت في 2017 من 47.5% إلى 54% من مجموع حالات الكشف عن الاحتيال عبر الإنترنت. ولذلك تشير التقارير المتخصصة بهذا المجال إلى تزايد اهتمام الدول المختلفة بقطاع الأمن الإلكتروني، وأن قيمة هذا القطاع في العالم ستزيد في عام 2019 على 155 مليار دولار، وستصل هذه القيمة في منطقة الشرق الأوسط إلى 22 مليار دولار في عام 2022؛ وفقاً لتقديرات مؤسسة «ماركتس آند ماركتس».
وإذا نظرنا إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، فإنها من الدول المستهدفة بشكل كبير من قبل الجريمة الإلكترونية، خاصة مع انفتاحها على العالم وتعدد الجنسيات فيها، فضلاً عن الاستخدام الكثيف فيها للخدمات الإلكترونية، وفي هذا السياق أشار «تقرير نورتون للأمن الإلكتروني 2017» السابق الإشارة إليه، إلى أن 52% من مستخدمي الإنترنت في الدولة تأثروا بالجريمة الإلكترونية في عام 2016 وهذا أكبر من النسبة العالمية التي تمثل 44%، وأن القراصنة استطاعوا السيطرة على نحو 1.05 مليار دولار في عام 2017 من نحو 3.72 مليون مستخدم في دولة الإمارات العربية المتحدة.
خسائر غير مباشرة
ولا يقتصر خطر الجرائم الإلكترونية على الخسارة المالية المباشرة، إنما يمتد إلى خسائر غير مباشرة، ومن أهمّها الوقت الطويل الذي يتم استهلاكه للتعامل مع هذه الجرائم سواء من قبل الأفراد أو المؤسسات، حيث يؤكد «تقرير نورتون للأمن الإلكتروني 2017» أن ضحية هذا النوع من الجرائم احتاج إلى 24 ساعة في المتوسط للتعامل مع تبعات الجريمة بعد وقوعها، ووصل هذا الرقم في دولة الإمارات العربية المتحدة إلى نحو 48 ساعة. أي أن هذا النوع من الجرائم له مخاطره المركبة التي تتضمن الخسائر المباشرة وغير المباشرة، إضافة إلى تأثيراته السلبية على المناخ الاقتصادي العام في الدول التي تعاني منه.
ثانياً- زيادة خطورة التهديدات والجرائم التقليدية: فإذا كانت التكنولوجيا قد أسهمت في خلق جرائم وتهديدات لم تكن موجودة من قبل؛ فإنها تؤدي كذلك إلى زيادة خطورة الجرائم والتهديدات التقليدية، مثل السرقة والنصب والاحتيال وتجارة المخدرات والإرهاب وغيرها؛ فهذه الجرائم لم تخلقها التكنولوجيا، ولكنها تستخدم فيها بقوة، وقد تحدَّث عن ذلك تقرير وكالة الشرطة الأوروبية السابق الإشارة إليه، حيث أشار إلى استخدام الطائرات من دون طيار في تجارة المخدرات، والاستفادة من الإنترنت في السرقات العادية عبر معرفة البيوت الفارغة من سكانها من خلال متابعة وسائل التواصل الاجتماعي. ويضاف إلى ذلك استخدام الجماعات الإرهابية التكنولوجيا في نشر أفكارها، والترويج لها، وجذب الشباب إليها؛ إضافة إلى توجيه الأوامر إلى الأتباع، وغيرها. وفضلاً عن ذلك؛ فإن جرائم مثل التشهير وبث الشائعات الكاذبة والدعاية السوداء والتجسس وغيرها قد غدت أكثر خطورة وتأثيراً بسبب وسائل التواصل الاجتماعي التي يتم استخدامها بقوة لإثارة الاضطرابات العرقية والدينية والمذهبية في المجتمعات المختلفة، وبث أخبار ومواد تسهم في إثارة عدم الاستقرار في هذه المجتمعات.
الأمن والتكنولوجيا.. علاقة بوجهين
ثالثاً- التكنولوجيا والأمن الاجتماعي: ثمَّة علاقة وثيقة بين التطور التكنولوجي والأمن الاجتماعي بمفهومه الواسع، وهي علاقة لها جانبان أحدهما سلبي، والآخر إيجابي. فعلى المستوى السلبي يمكن الإشارة إلى دور التكنولوجيا في زيادة معدلات البطالة بسبب حلولها محل البشر في الكثير من الوظائف؛ وما يترتب على ذلك من مخاطر في المجتمع. كما يمكن الإشارة إلى ما يطلق عليه اسم حروب الجيل الرابع، التي تهدف إلى زعزعة استقرار المجتمعات، ودفع مكوناتها العرقية والطائفية والدينية إلى الصراع والصدام، وهي حروب تعتمد بشكل أساسي على التطور الذي لحق بوسائل الاتصال أو ثورة الاتصالات، خاصة فيما يتعلق بوسائل التواصل الاجتماعي. وعلى المستوى الإيجابي؛ فإن التكنولوجيا الحديثة، بما أتاحته من إمكانيات التواصل الكبيرة بين البشر، تسهم في انفتاح المجتمع على العالم بما يساعد على اتساع أفقه، وتعزيز قيم التسامح وقبول الآخر فيه، وإضافة إلى ذلك؛ فإن وسائل الاتصال الحديثة تساعد الجهات المعنية بتشكيل الأفكار والتوجهات والقيم على إيصال رسائلها الثقافية والتوعوية إلى الأفراد بسرعة وكفاءة.
رابعاً- المساعدة في السيطرة على التهديدات وسرعة الكشف عنها: كما سبقت الإشارة، فإن علاقة التكنولوجيا بالأمن لا تسير في اتجاه واحد سلبي، وإنما لها اتجاه إيجابي كذلك، وربما يكون التأثير الإيجابي أكبر من التأثير السلبي في بعض الجوانب. فعلى سبيل المثال تساعد تقنيات الكشف عن الجرائم والمجرمين والمواد المحظورة وتقنيات المراقبة على منع الكثير من الجرائم قبل وقوعها، كما تسهم تقنيات التحقيق والبحث عن الأدلة وتحليلها وملاحقة المجرمين في فكِّ ألغاز الكثير من الجرائم والحيلولة دون الإفلات من العقاب عليها. وقد أدت التكنولوجيا إلى اختفاء بعض الجرائم أو تراجعها بشكل كبير؛ فعلى سبيل المثال فإن جرائم مثل سرقة السيارات قد اختفت من بعض الدول، أو تراجعت إلى أقل حد؛ بفضل التكنولوجيا الحديثة في السيارات التي تجعل سرقتها أمراً صعباً، فضلاً عن كاميرات المراقبة وغيرها. كما أن جرائم التحرش في المواصلات والمجمعات التجارية والأماكن العامة قد أصبحت في غاية الصعوبة بفضل كاميرات التصوير والمراقبة الدقيقة. وبسبب التقنيات الحديثة لم يعد ممكناً توجيه التهديدات، أو ممارسة الابتزاز عبر الهاتف من دون الوقوع تحت طائلة العقاب، وهكذا. ويسهم التطور التكنولوجي كذلك في سرعة الاستجابة للكوارث الأمنية والطبيعية؛ لأنه يزيد من فاعلية أنظمة الاتصال والتنسيق بين الأجهزة المعنية، وأنظمة التواصل بين أجهزة الأمن والجمهور، حيث تتيح وسائل الاتصال الحديثة قنوات لإيصال الرسائل إلى الناس في أوقات الأزمات، وتوعيتهم بكيفية التصرف في الظروف الصعبة.
تهديدات متغيرة
وبشكل عام يمكن القول إن المعنيين بقضية الأمن وعلاقته بالتطور التكنولوجي ومنجزات الذكاء الاصطناعي في الدول المختلفة أمام واقع أهم ملامحه التغير الكبير في طبيعة التهديدات الأمنية، وتعدد مصادر هذه التهديدات؛ ومن ثم فإن التحدي الذي يواجهونه هو كيفية تقليل الآثار السلبية للتطور التكنولوجي في الأمن بمفهومه الشامل، وفي الوقت نفسه توسيع مساحة الآثار الإيجابية. والأمر هنا يحتاج إلى دراسات عميقة لطبيعة العلاقة بين الأمن والتكنولوجيا من قبل الأكاديميات والمعاهد الأمنية المتخصصة، كما يحتاج إلى تطوير مناهج هذه الأكاديميات والمعاهد بما يتوافق مع التغيرات الكبرى الجارية في العالم، ولاسيما على المستوى التكنولوجي، خاصة أن كل الإشارات تؤكد أن التطور التكنولوجي، برغم كل ما حققه وما بلغه، لم يصل إلى منتهاه بعد، وأن السنوات المقبلة تحمل في طياتها الكثير الذي سيكون له تأثيره المباشر والقوي في كل جوانب الحياة، وفي مقدمتها الجوانب الأمنية، ومن المهم الاستعداد لذلك على مستوى الرؤى والاستراتيجيات من ناحية، والخطط وبرامج العمل من ناحية أخرى.
التعليقات