وقفت نوال مع قريبتها وأطفالهما أمام كشك في حي أبو رمانة، تلبية لطلب الأولاد شراء مثلجات، بدت نوال مترددة وهي تسأل قريبتها: «هل المثلجات هنا خالية من الجراثيم؟». وتابعت وسط ذهول صديقتها التي استنكرت هذا السؤال المهين بحق بلدها: «أخشى على الأطفال من تناول المأكولات، التلوث هنا فظيع».

نوال كانت قد غادرت دمشق عام 2012 إلى فرنسا، حيث تعيش عائلة زوجها المغتربة، ابنتها الكبرى كان عمرها سبع سنوات، الآن تبدو وقد كبرت وأصبحت مواطنة فرنسية، الطفلان الآخران ولدا في فرنسا أحدهما عمره ست سنوات والآخر خمس سنوات يتكلمان الفرنسية، ويفهمان العربية العامية، تقول نوال: «اشتقت لدمشق ولبيتي ولكل تفاصيل حياتي السابقة التي أريد أن يعرفها أولادي كي لا ينسوا أصلهم السوري». ومع أن زوج نوال ابن عائلة تعيش في فرنسا منذ أكثر من عقدين، إلا أن الزوجة كانت ترفض رفضاً قاطعاً الهجرة إلى أن جاءت الحرب فاضطرت للمغادرة لافتقاد الأمان في دمشق، تقول: «ما إن انتهت الحرب في دمشق وريفها وتوقف سقوط القذائف، فاض بي الحنين للعودة وقضاء إجازة الصيف هنا». غير أن المفارقة التي حصلت أن «الأولاد أحبوا دمشق، لكن أنا أصبت بخيبة كبيرة، فقد تغيرت المدينة كثيراً، تبدو مدينة فقيرة، متعبة، تسودها الفوضى، إنها ليست دمشق التي ولدت وعشت فيها». المشكلة التي تواجه نوال، وربما سوريين كثراً، أنها لم تتقبل العيش في دمشق بوضعها الراهن، لكنها في الوقت ذاته لم تنتمِ لمدينة باريس.

خلال فترة الصيف، عاد كثير من السوريين غير المطلوبين للأجهزة الأمنية ولا لخدمة العلم، في زيارة استكشاف إمكانية العودة، وهم من السوريين الذين غادروا البلاد بشكل نظامي في السنوات الأولى من الحرب، وحصلوا على إقامات في بلدان عربية وأوروبية، ومع ذلك عندما ينوون العودة يحاولون الاستفسار بطرق غير مباشرة عن أوضاعهم الأمنية، وإمكانية دخولهم بشكل آمن إلى سوريا.

بهاء (48 عاماً) مصمم إعلانات غادر سوريا نهاية عام 2011، وحصل على فرصة عمل في دولة عربية. يقول: «استفسرت عن طريق أصدقاء عن اسمي في الهجرة والجوازات قبل أن أغامر بالعودة، وبعد التأكد، جئت مع عائلتي، وكلي أمل أن نعود إلى بلدنا لنعيش بين أهلنا». إلا أنه خلال زيارته اصطدم بـ«انغلاق الأفق حالياً»، موضحاً: «ما زال الوضع غير مهيأ للقيام بأي مشاريع، رغم ما يشاع عن تشجيع الحكومة رجال الأعمال لاستئناف أعمالهم، إلا أن نظام الاحتكار والإتاوات والرشاوى والمحسوبيات ما زال قائماً، بل أقوى بكثير مما كان عليه قبل 2011. فأمراء الحرب يسيطرون على كل مناحي الحياة».

ما يقلق بهاء أن عقد عمله في البلد العربي شارف على الانتهاء، وأمامه خياران، إما العودة إلى سوريا أو الهجرة إلى كندا. غير أنه بعد زيارته إلى سوريا بات خيار الهجرة إلى كندا هو الأقوى، لأنه «أفضل لمستقبل الأولاد».

لميس وشقيقتها عادتا من ألمانيا، بعد 6 سنوات من الغربة، لتفقد منازل عائلتهما في حرستا، فوجدتاها أثراً بعد عين. وتسعى الشقيقتان لإنهاء معاملات إثبات الملكية تحسباً لتنفيذ القانون رقم عشرة. تحكي لميس عن قلق والدها على عقارات العائلة من الضياع: «فكرة العودة قائمة، لكن ليس قريباً. هاجسنا الآن المحافظة على ممتلكاتنا». وتضيف في تعليق على غلاء المعيشة: «شعرت كأني من أهل الكهف» فالقطع المعدنية من الفئات الصغيرة 5 و10 و25 ليرة التي كانت تدفع في النقل العام، اختفت، و«الخمسون ليرة الورقية باتت كالتهمة ما إن تدفعها لسائق السرفيس حتى يرميك بنظرة ازدراء، وأحياناً يرفض أخذها. المائة ليرة فقدت قيمتها وبالكاد تكفي للتنقل بين حيين». وتستدرك: «رغم كل شيء لا تزال بلدنا حلوة وفيها خير، لكن إذا عدنا أين نعمل لنستطيع العيش؟».

في المطبخ الواسع المطل على ساحة في حي المزرعة، تنهمك أم طالب (65 عاماً) في تحضير وليمة غداء لأكثر من 30 شخصاً. «تحول بيتنا إلى مقر أمم متحدة».

تقول أم طالب، وبعد أن تحمد الله على عودة الأقارب، الموزعين في السويد وأميركا والهند وألمانيا وفرنسا، تقول: «الكل مشتاق للبلد لكنهم جميعهم سيعودون من حيث أتوا». تضيف أم طالب ممازحة: «ما ذنبي أنا إذا بقيت في دمشق لأعمل في استقبال العائدين؟ هل من العدل أن يهربوا هم من القذائف والحرب، بينما أبقى أنا هنا أواجه الموت، والآن أشقى في تحضير الولائم واستقبال السائحين؟»، وتستدرك للتأكيد على أن ما تقوله مزاح بعد يوم طويل وشاق في تحضير الوليمة، «فضلت أن تقام في البيت لأنها أقل كلفة بكثير من المطاعم، وأطيب، والطعام الباقي يكفينا أسبوعاً».