&عبدالله الحسني

&المعيار الحقيقي للمثقف هو تطابق سلوكه مع ما يكتنزه من معارف وقيم وما يصبغ تصرفاته ومواقفه من ذوق رهيف وحُسْن سمْت وفِعل يورث صاحبه التواضع والارتقاء لمدارج التأثير ونصاعة الحضور ونقاء الأثر وفاعليّته..

لا اختلاف على أنّ الثقافة فضلاً عن كونها رصيداً معرفياً يكتسبه الإنسان عبر مراحل حياته من خلال القراءة النهمة والاطلاع الدؤوب والنهل من كل الحقول الثقافية ومشاربها المختلفة؛ فهي رصيد أخلاقي وحضاري وإنساني يرتقي بالروح والعقل معاً ويقوده للاتّزان وترقيق الحس والقدرة على النمو والأخذ بمحاسن الأفعال والأخلاق والسُّمو إلى المحامد، ولا فائدة يمكن الاعتداد بها ما لم تمهر هذه الثقافة والرصيد المعرفي صاحبها بتلك المكتسبات الثقافية وتتحوّل على سلوك عملي يشي بثقافته وتحضّره.

ولذلك فالمعيار الحقيقي للمثقف هو تطابق سلوكه مع ما يكتنزه من معارف وقيم وما يصبغ تصرفاته ومواقفه من ذوق رهيف وحُسْن سمْت وفِعل يورث صاحبه التواضع والارتقاء لمدارج التأثير ونصاعة الحضور ونقاء الأثر وفاعليّته.

لذا فلا غرابة أن يحتل مفهوم الثقافة هذا الاهتمام من خلال تعدّد الدراسات والتجاذبات باعتبارها وسيلة ذات أهمية بالغة سواء على مستوى الأفراد أو الدول والمجتمعات.

ومن ضمن التعاريف الطريفة للثقافة التي يشير لها الكاتب البريطاني الذائع الصيت تيري إيغلتون بأنّها مُفردة مُنكّهة بمذاق إنساني مع أنّ مفهوم الثقافة ذاته مشتقّ من الطبيعة؛ إذ ثمة علاقة وُثقى بين مفردة الثقافة ومفردة ( زراعة agriculture) وكذلك مع مفردة ( نصل الحراثة الحادّ coulter ). ويلفت إلى أنّ مصطلح الثقافة الذي نخلعه اليوم على بعض الفعاليات البشرية الأكثر فخامة ورفعة والأكثر التصاقاً بالحياة في الحواضر المدينية هو في حقيقية الأمر ذو جذر ريفي متواضع النشأة، ويمكن أن نشهد الكيفية التي انتهى بها مصطلح الثقافة ليكون معبّراً عن الثمار الأرقى في الروح البشرية إذا ما دققنا النظر في الالتماعات المبهجة للعمل اليومي الشاق في المزارع الريفية.

ولكن إلى أي مدى تنجح الثقافة في لجم فوضوياتنا وترتيبها وتشذيب أنفسنا من النرجسية ومحاولة الإضرار بالآخرين؟ من يتتبّع الحراك المجتمعي في وسائل التواصل الحديثة يلحظ حالة من العنف الرمزي والاستشراس وشيوع المظهرية وتضخُم الأنا بشكل أصبح ممقوتاً ومُنفّراً..! وكيف يمكن قراءة هذا المشهد الذي يسم هذا الفضاء سيما ممّن نعدّهم نُخبة مثقّفة أو هكذا يفترض؟ ما الذي يدفع بمثقّف إلى استباحة هذا الفضاء التوتيري لبثّ عقده ومشاعره السلبية تجاه من حوله وممّن لا يتّفقون معه ومع أفكاره مثلاً؟ أعتقد أنّه بحث جدير بالدراسة معرفياً وسوسيولوجياً وأنثروبولوجيا لأنّ النخبة – أو هكذا نتصوّرها - هي الأهم وبصلاحها وسلامتها من تلك السلبيات سيصلح الوسط الثقافي ومشهده الذي يرزح تحت وطأة فوضوى عارمة بحاجة لمن ينتشلها من وهدتها ويقودها لبرّ الأمان.

في كتابه الرائع " ذكريات عمر أكلته الحروف" يلفت الدكتور نجيب المانع إلى أهمية الثقافة والأدب ودورها في تشذيب النفس وتخليصها من غلواء الحقد والحسد فيقول: إذا كنت تعلّمت شيئاً من قراءة الأدب فهو مُحرّر للروح من إغراء الكراهية فحتى الهجاء شيء من التلقيح ضدّ الكراهية بالكراهية إذا كان هجاءً مُصاغاً صياغة فنية رفيعة، إذا كان الهجاء البليغ تحريراً فأيّ فرح هو ليس هجاءً بل حُباً خالصاً. ويشير في موضع آخر وبعبارة أكثر عمقاً ودلالة وأهمية فيقول: أجمل قصيدة يصيرها الإنسان، وهو أروع القصائد: هي أن يكون خالياً من الكراهية؛ ولكن الخلوّ من الكراهية لمدة طويلة عسير جداً، فقد عرفت وأنا أدرج نازلاً في سلّم الحياة، أنّ إغراء الكراهية أقوى من أي إغراء في العالم أولاً لأنها أهون العواطف، وثانياً لأنها أقواها، وثالثاً لأن أي شيء في إمكانه أن يثيرها: يكفي ألا تعجبك القصيدة كي تكره صاحبها ويكفي أن تكره صورة ما كي تكره راسمها، ويكفي أن شخصاً ما لا يستقبلك بحرارة كي تكرهه، أما بالتقصير في الواجب الاجتماعي أو المناسبة فأنت مستعد لكي تكره أقرب المقرّبين إليك.

الخلاصة أنّنا بحاجة للتحرر من ذواتنا المتنرجسة، وأن نكبح هذا التعاظُم والانتفاخ غير المبرّر وأن نتواضع أمام هشاشتنا حتى نكون قد قطعنا أوّل سبل العلاج ونكون جديرين بإنسانيّتنا وخزيننا المعرفي والثقافي والحضاري والقِيَمي.