حلل المبعوث السوفياتي نظير تورياكولوف أيضاً موقف سكان مدن الحجاز من السلطة، وحسب تقييمه، فإن كبار التجار كانوا يسيطرون على جميع مرافق الحياة في المدن، بينما كانت مصالحهم ترتبط بالسوق الإنجليزية والهندية. وتبعية النخبة التجارية في الحجاز للعالم الإنجليزي - الهندي، أمْلَت عليها «ذلك الخط السياسي، الذي كان الإنجليز يرسمونه آنذاك، من دون الاكتفاء بوسائل الضغط السياسي والاقتصادي، وكذلك استخدام وسائل الضغط الثقافي على نطاق واسع».

ومن الصعب الجزم، ما إذا كان تورياكولوف عرض استنتاجاته على أساس ملاحظاته والمعلومات الواردة إلى الدبلوماسي أم أنه كان يرسل إلى موسكو المعلومات التي يودّون هناك سماعها - وهذا الأسلوب كان شائعاً على نطاق واسع لدى الكثيرين، وليس فقط في أوساط الدبلوماسيين السوفيات، علماً بأن موسكو التي وضعت في طليعة مهامها في السياسة الشرق الأوسطية مواجهة الإنجليز، تود أن ترى دسائس «الإمبرياليين الإنجليز» في كل مكان، أينما وُجدوا أو لم يوجدوا.

مع ذلك يمكن أن نستخلص من الوثائق التحليلية التي بعث بها تورياكولوف إلى المركز، أن الملك عبد العزيز يتعرض من جانب لضغوط قبائل البدو الميالين إلى طاعة شيوخها وليس إلى السلطة المركزية، ومن جانب آخر لضغوط اتجاهات تفكير كبار تجار الحجاز ذوي الميول الإنجليزية، وبالقدر نفسه ضغوط البدو، ولا يرحبون بسعيه إلى إقامة دولة مستقلة في جزيرة العرب. وكان تورياكولوف مقتنعاً بأن الاعتماد فقط على العقيدة الإسلامية «الأصيلة» يمكن أن يضمن للملك عبد العزيز توحيد المجتمع الحجازي والنجدي.

وكتب المبعوث السوفياتي أن المبدأ لـ«بناء المجتمع والدولة الذي يجمع الملك عبد العزيز بموجبه في شخصه كامل السلطة والإمامة، يعطيه في منصب الملك صلاحيات واسعة لتحقيق نياته». وأفاد تورياكولوف بأن ابن سعود عمل ما يتفق مع نمط حياة السكان وتمثل بالنسبة إليه السند الذي يرتكز عليه «في الكفاح من أجل بلوغ أشكال أرقى النشاط الاقتصادي». وجاء في الرسالة السياسية للبعثة السوفياتية أن الملك عبد العزيز «يعمل على زيادة وتقوية العناصر الزراعية (في الواقع إنها ما زالت شبه زراعية) وفي الوقت نفسه يعمل على إضعاف النفوذ التقليدي للبعض بضمهم إلى صفوفه (480)».

كما لاحظ تورياكولوف تنامي دور الإخوان (أو ما يسمى «إخوان مَن أطاع الله» وهي حركة نشأت في السعودية عام 1911 تقودها مجموعة من شيوخ القبائل والدعاة وتم القضاء عليهم في معركة السبلة) في الدولة، إذ «يمثلون سند الملك عبد العزيز لا في داخل نجد فقط بل وخارجه في أرجاء المملكة كافة، ولهذا فإن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب شغلت في كل مكان في البلاد موقعاً مهيمناً. وتقيم الحكومة حاميات في جميع المراكز السكنية الكبرى والمهمة في الحجاز إلى جانب الفصائل المحلية من المتطوعين. ويحتفظ النجديون في جميع الدوائر المحلية المهمة (دوائر المحافظ، الجمارك...) بمناصب المفتشين والمساعدين المستحدثة لهذا الغرض.

وفي المدارس الكثيرة في الحجاز التي افتتحتها الدولة، تدخل تدريجياً عناصر التعاليم ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، إلى جانب المدرسة الخاصة في مكة من أجل إعداد الدعاة. ولا تقتصر رقابة الدعاة على الفروع المهمة في الدولة، بل تتدخل في أسلوب معيشة الناس اليومية في الحجاز، وتتحكم، أو بالأحرى تحاول التحكم بها وفقاً للمُثُل العليا التي يرونها (...)». ويلاحَظ هنا في استنتاجات القنصل العام بعض عدم الدقة: وهو التطور اللاحق للأحداث، وبالذات أن حرب الملك ضد الإخوان، التي ورد ذكرها آنفاً، قد أرغمت تورياكولوف على إعادة النظر في تقييم أهمية ارتكاز الملك إلى دعم الإخوان.

لقد زعم القنصل العام أن «التجار المتنفذين في الحجاز كانوا تحت راية السلام الديماغوجية في البلاد»، يدفعون الملك عبد العزيز إلى تقديم تنازلات سياسية، وأورد كمثال ساطع كلمة محمد ناصر، الشخصية المتنفذة في جدة، الذي نصح الملك عبد العزيز بتقديم التنازلات للإنجليز خلال مباحثاته مع (المبعوث الإنجليزي إلى العراق هربرت) كليتون. وقابل الدبلوماسي السوفياتي، الذي واصل التقليد الذي بدأه حكيموف، بين الملك عبد العزيز بصفته حامل لواء كيان الدولة المركزية القوي، بالحاكم الذي يذود عن مصالحه حيال بريطانيا الاستعمارية، وتجار الحجاز، الذين يبدون له موالين للإنجليز كلياً وبشكل قاطع.

لم يكن رأس المال التجاري يحظى بتعاطف المبعوثين السوفيات، وفي هذه الحالة ازداد موقفهم السلبي من الممثلية أكثر، لأن المبعوث وجد فيهم بالذات الجهة المسؤولة عن الإخفاقات في بيع السلع السوفياتية في السوق المحلية.

كان تورياكولوف وغيره من الدبلوماسيين يدركون جيداً أن بعض المنظرين في موسكو المختصين بدراسة الشرق الأجنبي يودّون كثيراً إدراج مملكة ابن سعود في عداد البلدان التي حدثت فيها تغييرات ثورية، مهما كانت قليلة الشأن، بتأثير «ثورة أكتوبر (تشرين الأول)». لكن هيهات أن تشبه جزيرة العرب إيران أو تركيا. لكن، كما أُشير آنفاً، بقي إدراك عقم المحاولات كافة لتشكيل حركة اجتماعية ثورية في صحراء جزيرة العرب، والذي أملاه عملياً غياب مثل هذه المحاولات وهيمنة الآراء البراغماتية المعتدلة بشأن العلاقات مع السعودية.

ومع ذلك سعى الدبلوماسيون الذين حللوا الوضع السياسي الداخلي في هذه البلاد إلى عدم تناسي الموقف الطبقي، فتراهم ينتقدون باستمرار «الكومبرادوريين في الحجاز»، ويتهمونهم بكل المصائب، ومنها تدهور العلاقات السوفياتية – السعودية. وأبلغ رئيس البعثة (موسكو) بأن «الكثير من عوائل التجار يعلّمون أطفالهم في المدراس الإنجليزية - الهندية أو يدْعون إلى بيوتهم المعلمين والمربين من بين العاملين في القنصلية البريطانية». وحاول تورياكولوف توصيف الخط العام للتجار فوصفه بأنه «حماية مقنّعة بهذا القدر أو ذاك للمصالح الإنجليزية». وكتب: «إن الفئة القيادية العليا للبرجوزاية التجارية في مدن الحجاز ستمضي مع الملك عبد العزيز فقط حتى يضطر الأخير، لاعتبارات المصالح العامة للبلاد، إلى المجازفة بمصالحها الرئيسية، واستمرارية العلاقات مع الأسواق الخارجية والتجارة الحرة، أي الاحتكارية، داخل البلاد».

وتطرق القنصل العام في مراسلاته مع موسكو إلى اتجاهات تفكير شريحة أخرى من سكان المدن في الحجاز، هي فئة مضيّفي الحجاج، وبفضل ذلك كان لهم نفوذ على قسم كبير «من أهل المدن الصغار». وكتب المبعوث: «إن تدبير أمور الحجاج الذي كان يشغل بال الملك عبد العزيز، شمل هذه الفئة». وحسب قوله، فإن هذا المجال من عمل الملك عبد العزيز كان موجهاً ضد تعسف المضيّفين الذي أصبح سائداً تقليدياً.

رغم القيود التي كانت تقيّد كثيراً حرية التحليل في الوثائق الدبلوماسية، فإن تورياكولوف أشار إلى قوة وجاذبية كيان الدولة الجديد وقاعدته الروحية، وطرح التنبؤات أيضاً. فكتب بهذا المعنى: «لا بد من الافتراض أنه مع توسع وازدياد قوة الدعوة الوهابية في نجد، ومع تنامي القدرات الاقتصادية لمزارعهم، سيزداد توسع دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب سياسياً وروحياً في الخارج». وما كان بوسع أحد أن يتنبأ في تلك الفترة البعيدة قبل اكتشاف النفط، بتوسع الدعوة إلى خارج الحدود، والتي كان تعدها غالبية السياسيين والدبلوماسيين ظاهرة تخص وسط جزيرة العرب حصراً. وأعرب الدبلوماسي السوفياتي بهذا الصدد عن ثقته بأن «الحكم سيتوطد بجد ولفترة طويلة لدى عدم وقوع أي كوارث سياسية خارجية».

كان من الطبيعي أن تولي البعثة السوفياتية اهتماماً شديداً للسياسة الخارجية للبلاد التي تعمل فيها. وأظهر تورياكولوف في مراسلاته مع المركز هذا الموقف من المملكة بسبب الوضع غير المستقر الذي نشأ في علاقاتها مع كثير من الدول، وقال إن «هذا الوضع لا يطاق، على الأخص، وصعب بالنسبة إلى بلاد مثل دولة ابن سعود التي كانت ما زالت في فترة التلاحم». وكانت القنصلية على صواب حين أكدت أن الملك عبد العزيز يهتم بالدرجة الأولى بتحسين العلاقات مع بريطانيا التي أبدت حكومتها بدورها أيضاً اهتماماً به.

وحسب تقييم الدبلوماسيين السوفيات، فإن الحدث الرئيسي في مجال السياسة الخارجية للمملكة هو أنها أبرمت في 17 سبتمبر (أيلول) عام 1927 المعاهدة التي عقدها الملك عبد العزيز -كما ذكرنا سابقاً (في الحلقة الأولى)- مع بريطانيا. وجاء في الاستعراض الذي أعدته البعثة حول هذه المسألة: «أخّرت إنجلترا إبرام هذه المعاهدة سعياً إلى أن تضغط بهذه الوسيلة على ابن سعود للحصول على حلول نافعة لها أكثر للقضايا المختلَف عليها، ويبدو أن ابن سعود لم يقدم التنازلات ورضي الإنجليز مؤقتاً بما تم الحصول عليه من ابن سعود، فأبرموا المعاهدة، التي تتسم بالنسبة إلى إنجلترا بأهمية استعراضية فقط، في الواقع، من حيث تأكيد أن الملك عبد العزيز يمثل الإسلام».

وفي عام 1928 انحصر حل مسألة تحسين العلاقات مع إنجلترا، حسب رأي موظفي البعثة السوفياتية، في المشروع الإنجليزي لمد خط السكك الحديدية «حيفا – الكويت». وطرح القنصل العام في مراسلاته الدبلوماسية تحليله للوضع الناشئ كما يلي: «إن قضية مد هذا الطريق يجب أن يُنظر إليها، حسب اعتقادي، باعتبارها مسألة أساسية وضعتها الإمبريالية البريطانية أمامها، وتتسم بقية المسائل بالقياس إليها بأهمية ثانوية. فمثلاً إذا اعتبرنا أن مهمة التحصينات العراقية التي بُنيت على الحدود مع نجد هي حماية أمن طريق السكك الحديدية القادم وإقصاء القبائل (مطير والعجمان) إلى الجنوب، في داخل نجد، فإن الهجمات المستمرة لقبائل الأردن على أراضي المملكة يجب أن تعد إحدى وسائل التأثير على ابن سعود في الاتجاه المذكور، طبعاً إن مثل هذه الهجمات من قبل القبائل كانت تُشنّ في هذه البلدان، ولها أسبابها الداخلية الخاصة. لكن أخذاً بالاعتبار فإن الإنجليز يشجّعون ويدعمون وينظّمون مثل هذه الهجمات تحقيقاً لأغراضهم، ومن وجهة نظر التأثير السياسي الذي يولّده الخلاف المصري – النجدي (عدم اعتراف مصر بالمملكة، وخُطط الملك فؤاد بشأن الخلافة، والخلاف حول المحمل «481»)، فإن من الواجب النظر إلى مطالب مصر المتزايدة باعتبارها أحد الجوانب الإيجابية بالنسبة إلى السياسة الإنجليزية.

أشار المبعوث السوفياتي لدى تقييم التكتيك الإنجليزي حيال الملك عبد العزيز خلال 5 أعوام إلى أن إنجلترا تخلّت منذ عام 1928 عن نهج الاتفاقات والحلول الوسط الذي اتبعته الحكومة البريطانية من قبل، في فترة 1925 – 1927، وانتقلت الآن تدريجياً إلى وسائل الضغط وخلق «شتى الصعوبات» في وضع الملك عبد العزيز في الخارج، وقد أدرك ذلك السياسيون في الرياض الذين وضعوا أيضاً بدورهم «خطاً جديداً لسلوكهم». وذكر تورياكولوف أن «بعض الشخصيات العربية مثل الشريف توفيق (483) يعتقدون أن حكومة المحافظين في إنجلترا تراعي بعض الأمور خصوصاً مع قرب الانتخابات، فيما الاعتبار احتمال أن تأتي إلى السلطة حكومة أقل نشاطاً في مجال السياسة الخارجية ولهذا تغالي بشتى الأشكال في أهمية خط السكك الحديدية (حيفا – الكويت). ومن هنا تغدو مفهومة، حسب رأي هذه الأوساط، رغبة الإنجليز إما في حل هذه القضية بصورة عاجلة، وإما طرحها بهذا الشكل (الحرب)، بغية أن يصبح خلفاء المحافظين أمام الأمر الواقع ويرغَمون بهذا الشكل أو ذاك على مواصلة نهج حكومة المحافظين الحالي. وانطلاقاً من هذا التحليل بالذات لنيات الإنجليز تخشى الأوساط السياسية المحلية أن تتأزم العلاقات الإنجليزية – السعودية أكثر خلال الفترة المقبلة، ويعكس هذا الرأي لدى المقربين من البلاط الملكي والمطلعين على رأي وخطط الأخير (أي الملك عبد العزيز والمقربين منه) ويظهر بصورة مباشرة التكتيك الجديد لابن سعود باعتباره تكتيك النزوع إلى البقاء مع حساب كسب الوقت، أملاً أن بعض التغييرات ربما ستحدث في السياسة الإنجليزية الشرقية بعد الانتخابات».

ويعتقد رئيس البعثة السوفياتية أن الملك عبد العزيز لن يُجري، قبل أن تحدث هذه «التغيرات»، أي مناقشة حاسمة للقضايا المختلف عليها، وبهذا يتجنب الخطوات التي يمكن أن يتخذها الإنجليز من أجل استثارة الاشتباكات. ويعتقد تورياكولوف أن سياسة الملك عبد العزيز الحذرة، حيث كان يدرك المجازفة والعواقب المحتملة التي تعد مقيدة، لأسباب عديدة منها... «مجمل صعوبة وضع الملك عبد العزيز بصفته زعيماً مسؤولاً للبلاد بشكل ساطع على الأخص في الفترة الأخيرة في مؤتمر الرياض. ولدى دراسة ما قام به الملك عبد العزيز طوال الأسبوعين قبل الافتتاح الرسمي لمؤتمر الرياض الشهير تبين أنه يركز على معالجة كثير من قضايا الحياة في الدولة، ويدل قرار اللجنة حول العلاقات الخارجية أن الملك عبد العزيز يجرّب الوسائل كافة من أجل التوصل إلى الاتفاق مع الإنجليز بصورة سلمية، وإذا تبين أن خطوات الملك عبد العزيز هذه بلا نتيجة، فإن القبائل تكتسب حق أخذ المبادرة والحرية في العمل بصورة مستقلة. ويتميز وضع الملك عبد العزيز بهذا القرار الذي يعد من حيث الطابع بمثابة اتفاقية بين حلفاء. ومن الضروري الإشارة إلى أن الملك عبد العزيز قام بدور الوسيط في حفظ التحصينات تجاه العراق ليكون بذلك الوسيط السلمي ونصير سلام ليحتفظ بحق ممارسة هذا الدور كصانع للسلام لدى مناقشة قضايا السياسة الداخلية أيضاً».

وخلص تورياكولوف إلى النتيجة «أن الملك عبد العزيز يقوم في أحيان كثيرة بدور «وسيط السلام» في الشؤون الداخلية، ويتجنب اتخاذ مواقف فيها غلو، ويتبع في قضايا السياسة الخارجية «تكتيك المراوغة» أيضاً. وأكد القنصل العام قائلاً: «أما الإصرار الذي أبداه الملك عبد العزيز خلال كل هذه الأعوام من أجل إزالة التحصينات العراقية، فيُعزى بصوة رئيسية إلى الاهتمام الشديد للقبائل والملك عبد العزيز بهذه المسألة، ولهذا ففي الطرح الإنجليزي للنزاع (المطالبة بإبقاء التحصينات، والمطالبة بتسليم وادي سرحان ومركز الجوف، وهلمّ جرّا) هيهات أن يعالج على أساس الحل الوسط. ومن هنا ينبثق تكتيك يتبعه الملك عبد العزيز من أجل تفادي المناقشة الحاسمة للنزاع مع خصمه الرئيسي. وذكر بعض الصحف العربية أن الاجتماع المقرر مؤخراً بين الملك عبد العزيز والإنجليز لم يتم لأسباب مجهولة. والآن تُروّج الإشاعات بإصرار حول استئناف المفاوضات في جدة لدى وصول الملك عبد العزيز إليها، وتجري في الوقت الحاضر استعدادات كبيرة في العقبة من أجل هذا الغرض. ولكن بغضّ النظر عما إذا كانت المفاوضات ستُستأنف أم لا، فإن الأجواء والوضع العام في البلاد يدل على أن ابن سعود لن يستعجل في هذه الظروف في دخول المعركة الحاسمة وسيفضّل اتّباع خط الانتظار. وبرأيي، إن الخط الآخر سيؤدي حتماً إلى إضعاف ابن سعود وانهيار التحالف بين الإخوان والقبائل الذي يرتكز عليه في داخل البلاد، وهذا سيعطي الخصم المزيد من الأوراق الرابحة من أجل التعامل مع الخطط الواسعة لابن سعود. هذه هي، برأيي، آفاق العلاقات الأنجلو - نجدية خلال نصف العام المقبل، هذا إذا لم يتغير الوضع العام».

لقد كان المبعوث السوفياتي يعتقد أن صعوبة الوضع السياسي الناشئ في العراق أثّر بقوة على سياسة الإنجليز في شبه الجزيرة العربية... «إذ تميز الوضع السياسي الداخلي في البلاد باشتداد واحتدام الصراع بين الأحزاب البرلمانية (وضمنها اليمينية) والإنجليز بصدد القضايا العسكرية (الخدمة الإجبارية، والقيادة العليا للجيش العراقي...) والقضايا المالية (إخضاع جميع مصادر الدخل ومنها هيئة إدارة ميناء البصرة للرقابة العراقية). بالإضافة إلى ذلك أظهر العلاقات بصورة لا تخلو من الظرافة الجدلُ الذي حدث مؤخراً بين جريدة (العراق) (بغداد)، وجريدة (أم القرى) (مكة). فكتبت الأولى مقالتها الافتتاحية بلهجة حادة جداً وانهالت على النجديين (نسبةً إلى أهل نجد والعاصمة السعودية مدينة الرياض) بأشنع النعوت ووصفتهم بالبرابرة... إلخ، ولامت قادة النجديين بأنهم يُجْرون المفاوضات بشأن قضايا تهم العراق ليس مع الحكومة العراقية بل مع (أطراف ثالثة) وأنه لا تتوفر لدى النجديين رغبة حقيقية صادقة في التفاهم مع العراق. وأشارت (أم القرى) في جوابها المشوب بالتحفظ، وكانت على حق، إلى أن العراق ما زال تحت الانتداب، وأن الملك عبد العزيز مضطر إلى مناقشة القضايا المذكورة مع الذين خوّلهم العراقيون أنفسهم في الواقع تسيير أمورهم الخارجية. ولهذا ترى (أم القرى) أن المسؤولية عن هذا النظام، الذي تشكو منه صحيفة (العراق)، لا تقع على أهل نجد (في أغلب الظن إن هذا الجواب أعده يوسف ياسين، وبالتالي يعرفه الملك عبد العزيز جيداً). لا ريب في أن العراق بحاجة إلى تسوية قضايا علاقاته الخارجية مع أقرب جيرانه – نجد وتركيا (مطالبة تركيا بالموصل ومنطقتها)».

يتبين من الوثيقة الدورية أن تورياكولوف أعار اهتماماً غير قليل إلى اتصالاته الدبلوماسية: «علمت من بعض الدوائر في مكة أنه حتى الهجمات من جانب تركيا ونجد غالباً ما تتطابق زمنياً وولّدت انطباعاً بأنها عمليات متفَق عليها مسبقاً. وإذا نفينا وجود تواطؤ بين تركيا ونجد في الوقت الحاضر فمع ذلك لا بد من ملاحظة الوضع غير الطبيعي للعراق الكائن بين نارين. وانطلاقاً من ذلك تبدو قريبة من الواقع أنباء الصحف العربية حول أن هربرت كليتون الذي عُيّن مفوضاً أعلى في العراق توجه إلى مكان عمله عبر أنقرة. وإذا تأكد هذا النبأ فإن زيارة كليتون لأنقرة تكتسب أهمية خاصة وترتبط بخطط الإنجليز حيال العرب. فإن من شأن إزالة المطامع التركية في شمال العراق أن تقوّي مواقع الإنجليز في جنوب العراق وخلافه مع ابن سعود وتوفر الفرصة لمقارعة الأخير بلا خوف على خطوطهم الخلفية. بودّي أن أُولِي هذه الأهمية بالذات لزيارة المفوض الأعلى للعراق أنقرة في اللحظة الراهنة».

لقد سعى الملك عبد العزيز إلى تسوية العلاقات مع بريطانيا وفعل ذلك بموجب شروط نافعة له إلى أقصى حد، واستغل هجمات قبائل البدو على المناطق الحدودية في العراق والأردن كعامل ضغط على الإنجليز، ولو أنها كانت تشن الهجمات أساساً بمبادرة منها. أما الملك عبد العزيز فكان من جانبه ينفي الشكاوى من أن الهجمات تشنها القبائل الخاضعة له وكان يبلغ حكومتي العراق والأردن باستمرار عن هجمات البدو على أراضي قبائل الحجاز ونجد. وكانت هجمات البدو بالنسبة إلى بريطانيا عاملاً يعقّد علاقاتها مع ابن سعود. وجاء في تعليمات وزارة الخارجية البريطانية آنذاك ما يلي: «يجب على وكيل صاحب الجلالة أن يبلغ حكومة الحجاز بصدد النبأ الوارد من حكومتي العراق والأردن حول غارات بدو الحجاز على قبائلهما وأجوبة هاتين الحكومتين على حكومة الحجاز بصدد الغارات على قبائل نجد والحجاز، وذلك من دون انتظار ورود التعليمات من لندن (484)».

وفيما يخص ما ورد في بلاغات تورياكولوف بصدد إحدى مقاطعات شمال شبه الجزيرة العربية وهي الجوف ووادي سرحان الواقعة على الحدود بين شبه الجزيرة العربية و«سوريا الكبرى» التاريخية، وحالياً الأردن (484)، ينبغي التطرق إلى تاريخ هذه القصة بإيجاز. ففي فترة 1793 - 1818 كانت هذه المقاطعة ضمن الدولة السعودية الأولى، وهذا يعطي للملك عبد العزيز المسوغات لاعتبارها جزءاً من دولته، لا سيما أن الجوف كانت في زمن ما جزءاً من إمارة شمر وعاصمتها حائل الموجودة الآن تحت سلطته. وفي أواسط عام 1922 أرسل ابن سعود القوات إلى هذه المقاطعة، واعترف حاكمها سلطان بن شعلان من عشيرة الرولة، بسيادة الملك عبد العزيز، وأصبح والياً عليها، بينما واصلت القوات زحفها حتى بلغت العاصمة عمان، لكن المقاومة الشعبية الأردنية ردّتها على أعقابها. وقررت إنجلترا عدم التدخل في النزاع، ولم يسمح فيلبي المندوب البريطاني في عمان، والذي أصبح لاحقاً مستشار الملك عبد العزيز، باستخدام الطيران البريطاني والدبابات البريطانية في مقاومتهم (486). لم تسفر عن نتيجة محاولةُ بريطانيا فض النزاع بين سلطان نجد (الملك عبد العزيز) وأمير الأردن، في مؤتمر الكويت الذي دعا إليه الإنجليز وعُقد في 1923 - 1924. وقام الإنجليز بمحاولة جديدة فأرسلوا إلى ابن سعود، كليتون الدبلوماسي المحنك في أكتوبر 1925، وتضمنت مهمته رسم الحدود بين نجد والأردن، وكذلك إيقاف الهجمات المسلحة للقبائل على الحدود العراقية - النجدية.

وإذا تسنى تحقيق التفاهم المتبادل في قضية الحدود بين نجد والأردن وتم تثبيت ذلك في الاتفاقية الأنجلو - نجدية الموقّعة في 2 نوفمبر (تشرين الثاني) 1925، فإنه لم يتسنَّ إيقاف هجمات القبائل البدوية المسلحة التي اعتادت نهب الجيران ولم تعرف أي قوانين. وبموجب الاتفاقية فإن القسم الأكبر من الجوف ووادي سرحان يسلم إلى دولة ابن سعود، أما مسألة تبعية مدينتي معان والعقبة فاعتبرها الجانبان موضع خلاف، حيث لم يوافق ابن سعود البتة على ضمهما إلى الأردن، ولم يتراجع الإنجليز عن موقفهم. ولم يتقرر موضوع الحدود نهائياً إلا في عام 1933، وبنتيجة ذلك وُقّعت في 27 يونيو (حزيران) معاهدة الصداقة وحسن الجوار بين المملكة العربية السعودية والأردن وسُوّيت جميع الخلافات وضمنها حول معان والعقبة اللتين أصبحتا تابعتين للأردن.