محمد كركوتي
«مع تحسن الحالة الصحية، ومع تمكين المرأة، النمو السكاني ينخفض»
بيل جيتس، مؤسس شركة مايكروسوفت
المسألة المتعلقة بنمو سكان العالم متباينة بين منطقة وأخرى. وهذه قضية حاضرة على الساحة العالمية دون أن يتراجع طرحها، ومن غير أن يخبو ملفها. وهي مرتبطة بالطبع بكل شيء، بدءا من ارتفاع معدلات العيش، أي ازدياد عدد المسنين، وانتهاء بالحقائق التي تحدثها موجات المهاجرين واللاجئين، مرورا بنوعية المعيشة، وتحسن ظروف الوصول إلى الأدوية المساندة للحياة، وارتفاع عدد أولئك الذين يعتقدون ضرورة تقليل معدل الإنجاب لأسباب شخصية. إلى غير ذلك من عوامل متجددة هنا وهناك. لكن في النهاية تبقى أوروبا المنطقة الأكثر قلقا من تراجع النمو البشري فيها، وكأنها ملتزمة بصفتها المعروفة بـ"العجوز"، لا يتوقف الحديث عن هذا الأمر فيها، ولا توجد مناسبة مختصة بالسكان عالميا وإقليميا إلا وتشارك فيها برؤى ودراسات وإحصائيات، وتقدم ما أمكن لها من اقتراحات وخطط بهذا الشأن.
في أواخر العام الماضي، حذرت الأمم المتحدة من انخفاض حاد في عدد سكان بعض الدول الأوروبية. وبلغت التحذيرات حدا أن وصلت إلى إعلان إمكانية فقدان هذه الدول ربع سكانها! ويبدو في الأمر للوهلة الأولى بعض المبالغات، لكن الحقائق على الأرض تدعم توقعات المنظمة الدولية، التي أشارت "من ضمن ما طرحته" إلى أن هذا التراجع في عدد السكان، يهدد دول المنقطة الأوروبية في الحفاظ على الخدمات الاجتماعية الأساسية، والمثير، أن تسع دول من العشر الأسرع انخفاضا في عدد السكان، توجد في شرق وجنوب شرق القارة الأوروبية. والسبب "بحسب خبراء الأمم المتحدة" يعود إلى أن عدد المهاجرين من هذه الدول، يفوق بكثير عدد الذين يهاجرون إليها، فضلا عن انخفاض عدد المواليد بشكل عام.
وحتى في الدول الأوروبية الغربية الكبرى والصغرى، هناك قلق كبير من جراء انخفاض عدد السكان، على الرغم من أنها الجهات الأكثر استقطابا للمهاجرين واللاجئين. فألمانيا "مثلا" استقبلت أعدادا كبيرة من اللاجئين في الأعوام الماضية، وهي تعاني تراجع عدد السكان، بل تواجه مخاطر في تلبية التزاماتها الاجتماعية بصورة عالية الجودة من جراء ذلك. لماذا؟ لأنها بحاجة إلى كوادر في كل القطاعات. وكذلك الأمر بالنسبة لبلد كبريطانيا التي تعاني أصلا ومنذ عقود نقصا كبيرا في الكوادر في قطاعات مثل الصحة والأمن وخدمات الطوارئ، بل حتى في قطاع النقل العام. وكانت إحدى حجج البريطانيين الذين رفضوا انفصال بلادهم عن الاتحاد الأوروبي، أن عضوية بريطانيا في هذا الاتحاد توفر لها بعض الضمانات في مجال الكوادر المطلوبة.
ولهذا السبب رفعت بعض الدول الأوروبية سن التقاعد إلى 65 عاما، علما أن عدد أولئك الذين يبلغون هذا السن بين 1995 و2035 في مناطق شرق أوروبا سيتضاعف في هذه الفترة الزمنية القصيرة. أي إن هذه المناطق التي تعد موردا جاهزا للكوادر الماهرة بالنسبة لدول غرب أوروبا، ستكون بحاجة هي نفسها إلى هذه الكوادر في غضون 15 عاما تقريبا! دون أن ننسى، أن دول شرق أوروبا هذه ستواجه أزمة في اللحاق ببقية دول أوروبا على صعيد التنمية قبل حلول منتصف القرن الحالي. لكن تبقى المشكلة الأهم في الوصول إلى حلول عملية لأزمات تراجع عدد السكان في جميع أنحاء أوروبا. ومثل هذه الحلول ليست سهلة، لأنها ترتبط بمسائل معقدة ومتشعبة.
فبحسب دراسة لمعهد ماك بلانك للبحوث الديموغرافية الألماني، فإن عدد سكان القارة الأوروبية كلها سيتراجع 50 مليون نسمة بحلول عام 2050. والسبب، ارتفاع معدلات الشيخوخة في ميزان النمو الديموغرافي مقارنة بمعدلات الولادات. ووفق الدراسة نفسها، فإن كل جيل سيقل عن سلفه بنسبة 25 في المائة، والحل الأولي لهذه المعضلة، هو أن تقوم الحكومات بالتشجيع على الإنجاب. والحق أن أغلب الدول الأوروبية تقوم بذلك بأشكال مختلفة، إلا أن تغير المزاج العام للسكان، ومفهومهم للإنجاب يجعل المهمة صعبة إن لم تكن مستحيلة. والخلافات في الرؤى تظهر على الساحة بين حكومات أوروبا في نواح كثيرة. فهناك من يرى ضرورة تشجيع موجات الهجرة بل حتى اللجوء، بينما ترفض أخرى الفكرة من أساسها. وهناك من يسعى إلى رفع سن التقاعد، إلا أن ذلك لا يلقى تأييدا كبيرا من جهات أخرى.
الأزمة كبيرة ومعقدة، وتدخل في النهاية ضمن النطاق السكاني العالمي، الذي يواجه أيضا تراجعا في نمو عدد السكان وفق الأمم المتحدة. فهذه الأخيرة تتوقع تراجع هذا النمو من 1 إلى 0.5 في المائة بحلول 2050 ويعود إلى 1 في المائة بحلول 2100، ليصل عدد السكان عالميا إلى 8.1 مليار في عام 2040. وفي ظل هذا التراجع والتقدم الطفيف المتوقع، إلا أن التوقعات العالمية تشير إلى بدء تراجع عدد السكان حول العالم بعد ذلك. لكن في النهاية تبقى أوروبا في المقدمة في وتيرة التراجع السكاني، وستنضم إليها مناطق أخرى خارجها. ما يفسر إلغاء الصين مثلا قانون إنجاب طفل واحد، لتتمكن الأسر من إنجاب اثنين.
التعليقات