عبدالله بشارة

أنهى الدكتور عبد اللطيف الزياني تجربته في مجلس التعاون منذ أيام متوجهاً إلى البحرين ليقود الدبلوماسية البحرينية في ثالث ربان لها بعد أن رسم ملامحها ورسخها الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة الذي تولاها بإدراك تام لواقع البحرين، بتاريخ غني جاء من جغرافيا دفعت شعبها إلى تطويع البحر للوصول إلى اليابسة. كان الشيخ محمد مبارك على علم بأن أجمل كنوز البحرين أخلاقياتها في السلوك وشغفها بالسلام ورضاها بما تملك، ووظف الشيخ محمد رقّة البحرين ووداعة دبلوماسيتها وحميمية أهلها بمهارة كسبت إعجاب الأعضاء في الأمم المتحدة، ومع الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة توطدت الأسس التي زرعها الشيخ محمد بن مبارك والتزمها الشيخ خالد الذي سينتقل نحو مكان آخر، ويأتي الدكتور عبد اللطيف الزياني حاملاً ملفاً عارفاً بمحتواه ومدركاً لأهدافه ومنطلقاً من التصاق الملف البحريني بدائرة مجلس التعاون، فثقة الملوك عزيزة مع توقعات برفع الأداء بما تفرضه الثقة. أكتب هنا بوحي مما يردده الدكتورعبد اللطيف كلما التقينا أنني عميد الأمناء توثيقاً وليس لأي أمر آخر.

لا يختلف ملف الأمين العام عن ملفات الوزراء، في ممارسة الدبلوماسية الجماعية التي ترتكز إلى المواقف المعروفة للدول الأعضاء والدفاع عن مصالحها وشرح أهداف هذه الدبلوماسية اعتماداً إلى وحدة المنظورفي دول المجلس. يتحمل الأمين العام للمجلس أمام الرأي العام العالمي أعباء التعريف بأفكار الدول الأعضاء التي يستلهمها في التعبير عن وجهة نظر تجاه ما يدور إقليمياً ودولياً، ومن البديهي أن تختلف الألوان في لوحة الدبلوماسية الخليجية لأن المواقف تتأثر بالجغرافيا كما تتأثر بطبيعة المصالح مع الدول التي ترتبط معها دول الخليج بالتحالفات الاستراتيجية، وتراعي الحقائق التي يفرضها الجوار، لا سيما أن دول الخليج لا تميل نحو المواجهات أو إصدار الاتهامات من دون مبررات لا تقبل الشك. هناك تباينات بين الأعضاء في المسافة التي يقطعها مجلس التعاون لنيل ثقة الجوار وفي محتوى العزم والإصرار على اتباعه، إذا لم تظهر دول الجوار تجاوباً ينشط الهمة الخليجية. كانت التجربة مع إيران في الثمانينيات من القرن الماضي خلال الحرب العراقية - الإيرانية متعبة لأن الأحلام الإيرانية طغت آنذاك على القدرة لتقييم الواقع في توازن القوى وفي الاستخفاف بالمقاومة العراقية وبالتصغير من مقام دول الخليج في استراتيجية الأمن والاستقرار، كان ذلك في النصف الثاني من الثمانينيات، مع احتلال إيران الفاو العراقي وانطلاق التعديات الإيرانية على ناقلات النفط الكويتية..

أتذكر أن مجلس التعاون صاغ مشروعاً من عشرة مبادئ، جوهرها عدم التدخل واحترام السيادة والحفاظ على الممرات المائية وحسن الجوار وبناء الثقة، لم يحدث التقدم في العلاقات مع الجانب الخليجي واستمرت الاستفزازات. ظلت العلاقات الإيرانية - الخليجية تشكل الأولويات في التهدئة الإقليمية، وتحسَّنت العلاقات لإيجابيات طهران خلال الغزو العراقي لدولة الكويت، لكنها ظلت منبعاً للتباينات في مواقف الدول الأعضاء، فعامل القرب الجغرافي استمر مؤثراً، فالتواصل لم ينقطع بين الكويت وإيران ولم تتأثر روابط قطر والسلطنة معها، كما اعتمدت المملكة العربية السعودية والإمارات المواقف الحذرة. نحن الآن في زمن لا يوحي بالأمل في التحوُّل في المواقف بين الطرفين مع استمرار تلك التباينات، وتولي الأمين العام الجديد الدكتور نايف الحجرف مسؤولية إدارة المجلس في أجواء بعيدة عن تلك التي جاء فيها الأمناء السابقون، فخريطة الوئام تغيرت وبرامج الأولويات تأثرت كثيراً بهذا التباين، ويمكن أن المسار الاقتصادي التجاري يشكل الأولوية المناسبة لظروف اليوم، وإذا كانت الرافعة السياسية في حالة ترقب للمدخل المناسب، فإن التجارة ومحتويات الاقتصاد يمكن أن تحركا المجلس نحو المزيد من تعزيز الروابط وتعميق المصالح وربط الشعوب بما يضاعف أملها في تجاوز أزمة اليوم.

جاء الدكتور نايف من حقل الاقتصاد ومن بقعة المنافع ومن ممارسة تولى فيها وزارة المالية الكويتية وأشرف على تطوير بورصة الكويت، ويدرك تلك المعاني التي تحققها المكاسب الملموسة للأفراد ولمؤسسات الدول. ليس من السهل إعادة انبعاث الديناميكية التي كانت وقود المسيرة، وليس بالضرورة إعادة أسلوب الأمس، وإنما الاعتماد في خطة المستقبل على حتمية التوافق التي يفرضها حرص الجميع على سلامة المنطقة، ووعي الجميع بدور المجلس في تأمين ذلك، وتوافر الحس الجماعي بالخروج من أزمة اليوم، وتبقى المساعي الصادقة التي لا يتردد سمو الأمير الشيخ صباح الأحمد الجابر، أمير الكويت، في تبنيها منذ بداية الأزمة وتواصله مع أطرافها، مدفوعاً بالوعي الناضج لنداء الضرورات في إعادة الحياة إلى المجلس في الأمن والسياسة، ابتداء بخطوات لها مغزى في رفع القيود المانعة من الوصول إلى أبناء العمومة والأقارب بعد انقطاع مؤلم. يحتل مجلس التعاون موقعاً عالياً في دبلوماسية الأمن الجماعي العالمي لسياسته العاقلة داخل المؤسسات العالمية في الامم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد، وفي منظمات ذات البعد الانساني، كما تتميز علاقاتها بالدول النامية بنبل السخاء في المساعدات والدعم السياسي والاجتماعي، وأكثر من ذلك ما أظهره المجلس من واقعية إيجابية في دبلوماسية الطاقة، التي تتوازن فيها الأسعار مراعاة لحق المنتجين وقدرة المستهلكين. في لقاء مع مجموعة من الدبلوماسيين، كان الخوف الذي تسيَّد ملاحظاتهم أن استمرار الوضع يولد بيئة الاعتياد على أجواء الأزمة من دون حرص جدي على تجاوزها، وربما تؤدي إلى تعميق الحس الوطني في رفض العمل الجماعي، وتفتح ثغرات تتسلل منها عناصر غريبة باجتهادات مضرة لفلسفة المجلس وتقوض أهدافه.

هذا هو الواقع الذي يعمل في أجوائه الأمين العام الجديد الذي جاء من الفناء المالي المثير إلى فناء السياسة بما فيها من تباينات ومتاعب المقاطعة، لكنه واقعي في تجلياته، فسيمشي بالمال والاقتصاد، ويستأنس بالمرجعية التي يجسدها سمو الأمير. تهانينا للدكتور عبد اللطيف الزياني لثقة الملك والدكتور نايف لثقة المجلس كله.