في إطار الحرص على التوعية بأهمية الاعتناء الذاتي بالنفس وبالعائلة والبيت، منعاً للتعرّض لفيروس كورونا المستجد، الوباء المعروف باسم «كوفيد-19»، ننشر هذه المقالة المطولة التي تأخذ القارئ في رحلة المصاب بفيروس «كوفيد-19»، وما فيها من ألم ومعاناة. طبعاً ليس بالضرورة أن يكون تفاعل جسم كل المصابين متشابهاً، وإنما يختلف رد الفعل من جسم إلى آخر، بطبيعة الحال، ولكن الخطر الداهم يستدعي من الجميع اليقظة والتحوط. قد يكون رد الفعل مختلفاً بين شخص وآخر بالنسبة للإصابة بالفيروس الوباء، غير أن الحالة التي تكاد أو يجب أن تكون مشتركة بالنسبة للبشرية جمعاء الآن هي «الوقاية». نعم الوقاية خير من العلاج وحتى لا يقع المرء في دائرة الندم.

تتصل بصديق وترتب لمقابلة على الغداء، وفي يوم ربيعي غير عادي، تختار مكاناً في الهواء الطلق ربما يكون أكثر أماناً. كالعادة، تتخذ جميع الاحتياطات المنطقية: تستخدم معقم اليدين، وتجلس على مسافة جيدة من الزبائن الآخرين، وتحاول تجنب لمس وجهك، على الرغم من أن هذا الجزء الأخير صعب جداً. وربما يشكك كثير منكم في أن هذا الأمر قد يكون مبالغاً فيه.

ما لا تعرفه هو أنه قبل عشرة أيام، كان والد صديقك ضيفاً على شريكه التجاري في ناد قريب، حيث التقط الشريك الفيروس الجديد من سمسار العملات المشفرة. بعد ذلك بثلاثة أيام، عطس في يده قبل أن يفتح باب شقته للترحيب بابنه. يمكن أن يحتوي لعاب مرضى «كوفيد-19» على نصف تريليون جزيء فيروس لكل ملعقة صغيرة، ويحوله السعال إلى رذاذ منتشر، بينما كان صديقك يسير عبر الباب، أخذ نفسا واستقر 32456 جزيء فيروس على جدران فمه الداخلية وحنجرته.

جزيئات فيروسية

منذ ذلك الحين، تتكاثر الفيروسات داخل جسمه. وبينما يتحدث، فإن مرور أنفاسه على البطانة الرطبة في حلقه العلوي يخلق قطرات صغيرة من المخاط المحمّل بالفيروسات التي تندفع بشكل غير مرئي في الهواء فوق طاولتك. يستقر البعض على الطعام الذي لم يتم تناوله بعد في طبقك، وبعضها ينجرف على أصابعك، والبعض الآخر ينجذب إلى الجيوب الأنفية أو يستقر في حلقك. في الوقت الذي تمد فيه يدك لتصافح مودعاً، يكون جسمك قد حمل 43654 جزيء فيروس. وبمجرد الانتهاء من المصافحة، يصل هذا الرقم إلى 312405.

تنجذب إحدى القطرات إلى الممرات المتفرعة من رئتيك وتستقر على السطح الدافئ الرطب، وترسب جزيئات الفيروس في المخاط الذي يغطي الأنسجة. كل جسيم منها مستدير وصغير جداً. لتقريب الصورة حاول تكبير شعرة آدمي بحيث تصبح بحجم ملعب كرة قدم، عند هذا الحجم سيكون عرض جسيم الفيروس أربع بوصات. يتكون الغشاء الخارجي للفيروس من طبقة زيتية مدمجة مع جزيئات بروتينية خشنة تسمى بروتينات «عنقودية». تخرج هذه الجزيئات على شكل نتوءات على سطح كرة. وداخل كل جسيم فيروس هناك لفافة من مورثات كوفيد19 من الحمض النووي الريبي الجاهزة لنقل العدوى.

عندما يتدفق الفيروس عبر مخاط الرئة، فإنه ينتقل إلى إحدى الخلايا التي تبطن سطح الرئة. هذه الخلية أكبر بكثير من الفيروس؛ أي بمقياس ملعب كرة القدم، يبلغ عرضها 26 قدماً. لقد تطورت على مدى مليار سنة من النشوء والترقي لمقاومة أي متطفل. ومع ذلك تعاني أيضاً من نقطة ضعف، هي باب خلفي يبرز من سطحه جزء من البروتين يسمى إنزيم تحويل الأنجيوتنسين 2 أو مستقبلات «إيه سي إيه 2»، ويلعب هذا الجزيء عادة دوراً في تعديل نشاط الهرمون داخل الجسم، وهو اليوم، سيكون بمثابة مرساة للفيروس المستجد.

بداية المقاومة

عندما ينتشر البروتين العنقودي على سطح خلية الرئة، يتطابق شكله مع شكل «إيه سي إي 2» لدرجة أنه يلتصق به مثل المادة اللاصقة. ثم يندمج غشاء الفيروس مع غشاء الخلية، ويسكب محتويات الحمض النووي الريبي في داخل خلية الرئة، إنه الآن هناك.

يبدأ الحمض النووي الريبي الفيروسي نشاطه بلا هوادة، وتحتوي الخلية على مادتها الوراثية الخاصة بها «دي إن إيه»، التي تنتج شظايا مستنسخة على شكل حمض نووي ريبي «ريبوسومات»، يتم نسخها باستمرار وإرسالها إلى الجسم الرئيسي للخلية، حيث توفر تعليمات حول كيفية صنع البروتينات التي تؤدي جميع وظائف الخلية.

وبمجرد أن يواجه الحمض النووي الريبي الفيروسي شظايا المقاومة، يبدأ ذلك الريبوسوم في قراءتها وبناء البروتينات الفيروسية، ثم تساعد هذه البروتينات الحمض النووي الريبي الفيروسي على نسخ نفسه، ثم تقوم هذه النسخ باختطاف المزيد من الريبوسومات في الخلية. وتمنع البروتينات الفيروسية الأخرى الخلية من القتال. وسرعان ما تطغى متطلبات الحمض النووي الريبي الفيروسي على عمل الخلية الطبيعي تماماً، حيث تشغل طاقتها وآلاتها ببناء مكونات عدد لا يحصى من فيروسات النسخ المتماثلة.

بعد إخراج المكونات يتم نقلها على حزام ناقل خلوي نحو سطح الخلية. يلتف غشاء الفيروس والبروتينات العنقودية حول خيوط الحمض الريبي، ويكون جسيما جديدا جاهزًا. تتجمع هذه الجسيمات في فقاعات داخلية، تسمى الحويصلات، التي تتحرك إلى السطح، وتنفجر وتطلق جزيئات فيروس جديدة في جسمك بعشرات ومئات الآلاف.

وفي الوقت نفسه، فإن البروتينات العنقودية التي لم يتم دمجها في فيروسات جديدة تُدمج نفسها مباشرة في غشاء الخلية المضيفة بحيث تلتصق بسطح الخلية المجاورة، ثم تلتحم الخليتان، وتضخ مجموعة كاملة من الحمض النووي الريبي الفيروسي إلى الخلية المضيفة الجديدة.

يتكرر المشهد مراراً وتكراراً في جميع أنحاء أعلى وأسفل رئتيك وحلقك وفمك، بعد اختراق الخلية واختطافها. وبافتراض أن الفيروس يتصرف مثل «السارس»، فإن كل جيل من العدوى يستغرق حوالي يوم ويمكن أن يتضاعف الفيروس مليون مرة. ثم تنتشر الفيروسات المستنسخة في السائل المخاطي، وتغزو مجرى الدم، وتتدفق من خلال الجهاز الهضمي.

كابوس الحجر

حتى الآن أنت لا تشعر بأي من شيء. في الواقع، ما زلت تشعر أنك بخير تماماً. إذا كان لديك أي شكوى على الإطلاق، فهي من الملل. لقد كنت مواطناً خجولًا، وبقيت في المنزل لممارسة التباعد والعزل الاجتماعي، وبعد يومين من الانغماس في اللهو المنزلي، قررت الخروج خوفاً على صحتك العقلية المعرضة للخطر.

ثم تدعو شريكاً سابقاً أو صديقاً، أو توافق على مقابلة شخص عزيز في نزهة في الحديقة المجاورة. لكن قناع الوجه الذي ترتديه يقتل فرحة الأجواء المنعشة. قد يخبرك صاحبك أنه التقى مع رجل آخر في مقهى. عند الوداع يمنحك حضناً دافئاً، وتخبره أنك استمتعت برؤيته، لكنك تغادر ويملؤك شعور بالهروب. ما لا تعرفه هو أنه قبل ساعة، ذهب صاحبك إلى الحمام وأهمل غسل يديه بعد ذلك. تحتوي لطخة وسخ غير مرئية على ذراع سترته على 893405 جزيء فيروس. بعد سبعة وأربعين ثانية من عودته إلى المنزل، سيعلق معطفه ثم يخدش بحكة في قاعدة أنفه قبل أن يغسل يديه. في تلك اللحظة، سوف تنتقل 9404 جسيمات فيروسية إلى وجهه. في غضون خمسة أيام، سوف تأخذه سيارة إسعاف إلى الحجر الصحي.

تفرز خلاياك المصابة جزيئات الفيروس حتى تتلاشى وتنتهي. مع انتشار شظايا الخلايا المتحللة عبر مجرى الدم، يشعر جهاز المناعة أخيراً بأن هناك خطأ ما.

تكتشف خلايا الدم البيضاء شظايا الخلايا الميتة وتطلق مواد كيميائية تسمى السيتوكينات التي تعمل كصافرة إنذار، وتنشط أجزاء أخرى من الجهاز المناعي استعداداً للعمل. عندما تستجيب الخلايا المناعية للخلية فإن الخلية المصابة، تهاجمها وتدمرها.

تدور داخل جسمك معركة مجهرية يشنها جهاز المناعة على كل خنادق العدو وقواته الخاصة. مع تصاعد المذبحة، ترتفع درجة حرارة الجسم وتصبح المنطقة المصابة ملتهبة.

بعد يومين، وأنت جالس لتناول الغداء، تدرك أن فكرة الأكل تجعلك تشعر بالغثيان. قد تستلقي وتنام لبضع ساعات. عندما تستيقظ، تدرك أنك أصبحت أسوأ. صدرك يشعر بالضيق، ولديك سعال جاف لايهدأ. تتساءل: هل هذه أعراض كورونا؟ تقوم بالتنقيب في خزانة الأدوية الخاصة بك دون جدوى وتجد في النهاية مقياس حرارة في الجزء الخلفي من الخزانة. تمسكه تحت لسانك لمدة دقيقة ثم تقرأ النتيجة: 102 فهرنهايت. يالطيف، تنتظر ثم تزحف مرة أخرى إلى السرير. تقول لنفسك قد يكون مجرد إنفلونزا عادية، وحتى إذا كان الأسوأ، فأنت صغيرالسن وبصحة جيدة. أنت لست ضمن الفئة المصنفة -عالية درجة الخطورة.

حمى عنيفة

ربما تكون على حق إلى حد ما. بالنسبة لمعظم الأشخاص الذين أصيبوا بكوفيد 19 كانت الإصابة أبعد ما يخطر على بال أحدهم. فهم تحسنوا مع الراحة في الفراش. ولكن لأسباب لا يفهمها العلماء، يعاني حوالي 20 بالمئة من الأفراد في العالم من المرض. وعلى الرغم من شبابك النسبي، فأنت واحد منهم.

بعد أربعة أيام من الحمى العنيفة والشعور بالآلام في كل مكان، تدرك أنك مريض أكثر من أي وقت مضى في حياتك. لديك سعال جاف يهزك بشدة لدرجة أن ظهرك يؤلمك. تواجه صعوبات في التنفس، يمكنك طلب سيارة والتوجه إلى أقرب غرفة طوارئ. تترك 376.345.090 جزيئاً من الفيروس ملتصقة على شكل لطخات فوق أسطح مختلفة من السيارة إلى البيت والمكتب و323.443.865 أخرى تسبح في الهباء الجوي.

في غرفة الطوارئ، يتم فحصك وإرسالك إلى جناح العزل. بينما ينتظر الأطباء نتائج اختبار الفيروس التاجي، فإنهم يجرون فحصاً مقطعياً لرئتيك، والذي يكشف عن «بقع معتمة»، وهي نقاط غامضة ناجمة عن تراكم السوائل حيث تكون معركة الجهاز المناعي هي الأكثر كثافة. أنت لست فقط مصاباً بفيروس كوفيد 19 بل إنه تطور إلى نوع من الالتهاب الرئوي الشديد والخطير يسمى متلازمة الضائقة التنفسية الحادة.

تمنح سريراً كغيرك من المصابين في غرفة إلى جانب خمسة مرضى آخرين. يضع الأطباء في ساعدك محلولاً وريدياً لتزويد جسمك بالمغذيات والسوائل إضافة إلى الأدوية المضادة للفيروسات. خلال يوم من وصولك، تتدهور حالتك. تتقيأ لعدة أيام وتبدأ في الهلوسة. يتباطأ معدل ضربات قلبك إلى 50 نبضة في الدقيقة. عندما يموت مريض في الغرفة المجاورة، يأخذ الأطباء جهاز التنفس الصناعي الذي كان يستخدمه ويضعونك عليه. وتقوم ممرضة بربط الأنبوب الرغامي أسفل حلقك، وتشعر بتمدده بشكل أعمق وأعمق تجاه رئتيك. وتستلقي مستسلماً بينما تضع الممرضة شريطاً على فمك لتثبيت الأنبوب في مكانه.

أنت الآن تتلاشى. لقد فتك جهاز مناعتك بنفسه عبر «عاصفة السيتوكين»، وهي زيادة مفرطة في الكثافة لدرجة أنه لم يعد يحارب العدوى الفيروسية فحسب، بل خلايا الجسم نفسها أيضاً. تقتحم خلايا الدم البيضاء رئتيك وتدمّر الأنسجة. يملأ السائل الأكياس السنخية الصغيرة التي تمكن الدم من امتصاص الأكسجين. وبسرعة تجد صعوبة في التنفس حتى مع ضخ جهاز المنفسة الهواء المخصب بالأكسجين إلى رئتيك.

هذه ليست نهاية القصة. فشدة الاستجابة المناعية عند هجومها تعطل عمل أجهزة الجسم، وهي عملية تعرف باسم متلازمة الخلل الوظيفي المتعدد الأعضاء.عندما يفشل الكبد، فإنه لا يستطيع معالجة السموم في الدم، لذلك يسارع الأطباء لربطك بجهاز غسيل الكلى على مدار الساعة. تبدأ خلايا دماغك المحرومة من الأكسجين في التلاشي.

بين الحياة والموت

صرت بين الحياة والموت مع تعطل أجهزة جسمك بنسبة 50% أو أكثر، وتبقى مستلقياً على سريرك لا يصغي إليك أحد، بينما يربطك الأطباء بجهاز أكسجة خارجي لدعم قلبك ورئتيك على أمل أن يبقيك على قيد الحياة حتى يتمكن جسمك من العثور على مخرج يعيد لك التوازن.

أنت الآن غارق في أحلام اليقظة. تشعر بأنك لا تزال قادراً على المواجهة والصمود. لقد انتهى الأسوأ. لكن مع استئناف الهجوم الفيروسي، سوف يتصدى له جهاز المناعة في جسمك، وستبدأ الرحلة البطيئة والمضنية للشفاء التام. بعد عدة أسابيع من الآن، سيزيل الأطباء الأنبوب من حلقك ويخرجون جهاز التنفس الصناعي. ستعود شهيتك، وسيعود اللون الأحمر إلى خديك، وفي صباح الصيف، ستخرج في الهواء النقي وتستقل سيارة أجرة إلى المنزل. وبعد ذلك، ستلتقي بالفتاة التي ستصبح زوجتك، وسيكون لديك ثلاثة أطفال.

هذا ما يقوله عقلك الباطن، على أي حال، وبينما تنفجر الخلايا الأخيرة من قشرة دماغك في موجات انفجار متتالية، تستقر نغمات جهاز المنفسة عند مسار ثابت. يأخذ الأطباء جهاز التنفس الصناعي ويعطونه للمريض الذي وصل صباح ذلك اليوم. وفي السجلات الرسمية لوباء «كوفيد 19»، سيتم تسجيلك تحت اسم الضحية رقم 592.