نشأ جيلى الثمانينى ممنَ تعودوا على السفر من القاهرة إلى الإسكندرية بالسيارة، أو الأتوبيس، إما أن يأخذوا الطريق الزراعى الذى يجتاز حى شُبرا، بازدحامه الشديد، إلى بنها، وكان طريقاً من عِدة حارات فى كلا الاتجاهين إلى بنها، ثم من بنها إلى كفر شُكر، متجهاً إلى بقية محافظات الدلتا، القليوبية والمنوفية والغربية والبحيرة، إلى مشارف الإسكندرية، ثم اختراق أحيائها المزدحمة، للاتجاه إلى أحد شواطئها فى شرق الإسكندرية، أو وسطها، أو غربها. وكانت الرحلة شاقة، ولكنا كنا نتحملها ذهاباً، ثم نقضى شهرا أو شهرين، نتمتع فيها بجمال ملاحات الإسكندرية ومطاعمها، وأنديتها. ولكن فى رحلة العودة بالسيارة، نُعانى من نفس الرحلة الشاقة، فى المرور بعشرات القُرى والمُدن إلى شُبرا، ثم بقية الأحياء، حيث يُقيم كل منا.

تغير ذلك فى الذهاب والإياب، حيث شيّدت الدولة فى غرب الدلتا، من الجيزة إلى العجمى، طريقاً سريعاً، يمكن اختصار الرحلة إلى ساعتين ونصف بلا توقف، أو ثلاث ساعات إذا رغب المُسافر فى استراحة قصيرة، فيما سُمى بالفعل ببيت الاستراحة، أو الرست هاوس فى منتصف الطريق، عند حوالى الكيلو مائة، حيث يمكن شراء المشروبات والأطعمة الخفيفة. وكان ذلك يُمثل فى حينه- ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، نقلة نوعية فى السفر البرى بالسيارات والأتوبيسات السريعة. صحيح كان الطريق فى معظمه صحراء جرداء صفراء على جانبى الطريق السريع، الذى اختصر ساعة على الأقل بين العاصمتين.

ولكن فى السنوات الثلاث الأخيرة، وبفضل دخول الهيئة الهندسية للقوات المُسلحة فى مجال التشييد، تم توسيع الطريق الصحراوى من أربع حارات فى الاتجاهين، إلى عشر حارات، كل منها خمسة أمتار، أى ما مجموعه خمسين متراً، تتسع إلى اثنتى عشرة حارة، أى أكثر من ستين متراً، إلى جانب حارات جانبية أضيق قليلاً، للنقل البطىء، ولخدمة السيارات التى قد تتعطل على الحارات العشر الرئيسية.

وأثناء وبعد استكمال ذلك الطريق الهام، والذى دأبنا على تسميته بالطريق الصحراوى، تم استصلاح آلاف الأفدنة، وزراعتها بأشجار النخيل والزيتون والزراعات الأخرى. وبدأ الطريق يشهد على الجانبين توطين مكاتب وفروع لشركات جديدة، خدمية وصناعية، وفروع لشركات استثمارية، وطنية وعالمية.

وكانت البداية، فى شمال محافظة الجيزة، التى يبدأ منها الطريق، بمزارع دينا، ثم بالمدينة الذكية للحاسبات والمعلومات، ومنها شركة المحاسبة المصرية، العملاقة لحازم حسن، ثم توكيلات وفروع شركات السيارات العالمية-اليابانية، والأوروبية، والكورية، والأمريكية.

ومنحت الحكومة المصرية لمجموعة مستثمرين من الإمارات العربية المتحدة عِدة آلاف من الأفدنة الصحراوية، لاستصلاحها، وزراعتها، وتصدير منتجاتها إلى وطنهم الأم فى دُبى أو أبوظبى والشارقة. فاستفادوا هم من ناحية، وأفادوا آلاف المصريين من الخُبراء والفلاحين والعُمال، من ناحية أخرى. وأسهمت تِلك المُبادرة فى تحضير جانبى الطريق الصحراوى فى منتصفه بين الكيلو الخمسين والكيلو مائة. وشمل ذلك حفر قنوات جديدة، إلى جانب القناتين القديمتين، وهما قناتا المنصورة والمريوطية، والتى حملتا بعضاً من مياه نهر النيل، إلى جانب حفر مئات الآبار على أعماق تتراوح بين خمسين ومائة متر، وتصلح مياهها، رغم درجة ملوحة أعلى من المتوسط، لرى الزراعات شبه الصحراوية مثل الزيتون، والصحراوية مثل الصبّار وبعض نباتات الزينة.

وفى الخمسين كيلو الأخيرة من الطريق، قبل أن يصل إلى منطقة العجمى وأبوتلات، فى غرب الإسكندرية، هب المستثمرون الإسكندرنيون النُشطاء بحجز مساحات كبيرة استخدموها للتخزين، أو لمعارض السيارات، ومواد البناء.

وفى الخمسين كيلو الوسيطة، كثرت على الجانبين فروع المطاعم المصرية الشهيرة، وفروع المطاعم الدولية. ولأن الأطفال والشباب هم الأكثر رغبة وإقبالاً على مطاعم الوجبات السريعة، فقد استحدثت بعض تِلك المطاعم حدائق ألعاب وتسلية لعُملائها من الشباب والأطفال. بل أكثر من ذلك استحدث بعضهم حدائق حيوانات صغيرة. فهناك قرية الأسود، وقرية النمور، ووادى الغزلان، وبعضها للخيول، وبعضها للجمال، وبعضها للدواجن، وأخرى لكلاب الحراسة، أو قطط الزينة. ونادراً ما يُصادف المُسافر، فى عام 2020، على طريق القاهرة- الإسكندرية الغربى، بُقعة صحراوية صفراء. ولذلك، وحيث لم يعد طريقاً صحراوياً بالمرة، فلنخترع له تسمية أخرى، ولتكن باسم أحد المُطورين العظام فى النصف قرن الأخير- مثل المهندس نجيب ساويرس، أو المُقاول عثمان أحمد عثمان، أو المقاول حسن علام، أو الوزير المتميز عاصم الجزار، الذى كان وراء تنمية الساحل الشمالى من العجمى إلى مرسى مطروح.

إن خريطة مصر العمرانية تتغير تدريجياً، ولم يعد جزئها المعمور هو الخمسة فى المائة من المليون كيلو متر مربع، الذى ورثناه من زمن الفراعنة، قبل خمسة آلاف سنة. ورغم أننى لا أعرف تحديداً المساحات الجديدة التى تم تعميرها واستصلاحها، إلا أننى أخمن أنها ربما تكون قد تضاعفت إلى عشرة فى المائة.

وفى مقال قادم، سأتناول محوراً تنموياً آخر، بامتداد الساحل الغربى للبحر الأحمر، والذى يمتد من العين السُخنة قُرب مدينة السويس، إلى مرسى علم وشلاتين، قُرب الحدود المصرية- السودانية، والذى لا يقل إبهاراً، بل إننى أكتب هذا المقال، فى رابع أيام عيد الفطر المُبارك، من إحدى تِلك المناطق، وهى خليج أبو سومة، والذى ارتاده منذ عِدة سنوات سُياح سويسريون وسويديون، فى فصل الشتاء، شديد البرودة فى بلادهم، ولكنه مُشرق دافئ على خليج أبو سومة، والذى يقرأ عنه مُحبو السياحة الشتوية تحت اسم (Soma Bay). وبالمناسبة، ليست هذه هى المرة الأولى التى نتعرف فيها، نحن المصريين، على بعض معالم بلادنا الجميلة، بعد أن يسبقنا إلى اكتشافها سُياح أجانب! فلا حول ولا قوة إلا بالله.