تعتبر كتب المذكرات والسيرة والروايات من مصادر المعرفة والمراجع والاستنارة، التي تفتح مجالاً للنقاش والمزيد من البحث في التأييد او التفنيد والتصحيح.

فالروايات الرصينة تحديداً، التي تمزج بين المذكرات وقصص حقيقية، تمنح فرصة للكاتب لتأدية مهمة غير سهلة في وضع الواقع في قالب روائي مشوق وجاذب من دون المساس في الجوهر.

من الروايات ذات القيمة المعرفية، التي تتناول مرضاً معيناً وما يصاحب ذلك من معاناة، تدفع الراوي، أي الكاتب، إلى أن يؤدي دوراً مميزاً في الوصف الدقيق لمراحل تدهور صحية للمريض، مصحوباً بنقاش غير متوقع مع المريض عن شجاعته في مواجهة مرضه، والنهاية الحتمية ومتعة الطرفين في تبادل الرأي.

نسمع ونقرأ عن أمراض متقدمة ومعقدة من حيث الأعراض والتطورات والنتيجة الاخيرة المؤدية إلى فقدان التحكم فيها جسدياً وعصبياً، كمرض التصلب الجانبي الضموري ALS، وهو مرض فتاك بطبيعته يدهم الأعصاب والعضلات ليشل أطراف الجسد والسيطرة عليها حتى تصبح الحركة مضنية جداً نفسياً واجتماعياً وبدنياً.

كثير من الأمراض الشائعة يمكن استيعاب أعراضها ومراحل التدهور الصحية وطرق الوقاية والعلاج بحسب طبيعة المرض، ولكن هناك أمراضاً تحتاج إلى قوة نفسية ذاتية في المواجهة والتعايش مع الأمراض حتى لو كانت قاتلة، وهي قوة متفاوتة من شخص إلى آخر، اعتماداً على طبيعة الذات البشرية لكل شخص.

كثير منا من عايش ضمن المحيط القريب والبعيد معاناة أقارب وأصدقاء ومعارف مع أمراض عضال مختلفة، وعبر عنها بشتى الأساليب، ولكن قد لا توفي المفردات والأحاديث، التي تكتب وتقال هنا وهناك، حقيقة الوضع وشدة الألم والمعاناة والوجع، فتأوه المريض لا يستطيع الإنسان الآخر الإحساس فيه بقدر صاحبه.

دهم مرض التصلب الجانبي الضموري ALS شتى أنحاء العالم، وقرأت بشكل متواضع عن أعراضه، فهو مرض شديد التعقيد والتطور السريع حيناً والبطيء حيناً آخر.

فحين قرأت مرات عدة وبعناية سيرة ومذكرات ضمن قالب روائي من 210 صفحات للكاتب Mitch Albom ميتش البوم، تحت عنوان Every Tuesdays with Morrie «كل ثلاثاء مع موري»، وجدت نفسي أمام سرد معلوماتي دقيق الوصف وغير طبي بعمق مفرداته، حيث تفوق الكاتب بالمزج بين انطباعاته وملاحظاته ورصده الدقيق لتطورات وانتشار مرض ALS في جسد أستاذه المتخصص في علم الاجتماع Morrie Schwartz، من خلال زيارات أسبوعية منتظمة وحوار علمي وليس طبيا حول شعور وتفسير الأستاذ المصاب بهذا المرض العضال.

وجد الكاتب أفضل وصف لهذا المرض «الشمعة، التي تذيب أعصاب الإنسان وتركه لاحقاً كبقايا مجموعة شمع».

المصاب بمرض التصلب الجانبي الضموري ALS، موري، ترك لتلميذه ميتش عملية الرصد والتوثيق الروائي الدقيق بشأن تطور مرض ضمور الاعصاب والصعوبة اليومية للحركة الجسدية وفي الحديث ايضا، بينما ركز المريض موري مناقشة «كل يوم ثلاثاء» على تصدير رأيه وقناعاته العلمية والفكرية حول الحياة والمرض والموت، وهو ما جعله يبدو أكثر قوة في مواجهة التدهور المضني للحركة البدنية نتيجة هذا المرض القاتل.

تنتهي حياة الإنسان بعد وفاته في نهاية المطاف البشري، ولكن تظل الذكرى في إرثه العلمي والفكري ويقينه وإنجازاته في شتى الميادين ذات الصلة، وهو إرث قد يبدو متواضعاً أو قابلاً للنسيان، بينما الحقيقة هي العكس تماماً، لا سيما حين تكون التركة ثقافية معمقة، وتحمل مزيجاً من الجدل والصراحة في مواجهة النهاية الحتمية بعقلانية فكرية.

روايات كهذه.. إنها مرايا الحياة لجوانب خفية وفكرية قد لا يجرؤ أي إنسان على البوح بتفاصيلها بعلانية موثقة بتفاصيل دقيقة للغاية، فالحياة والموت لهما مفاهيم شتى.