يُلاحظ سياسياً أن تباطؤ الحوار الوطني المنتظر في تونس على خلفيَّة الأزمة السياسية، التي تعمّقت على نحو مقلق، سيفرغ الحوار من محتواه، ويُرجع عقارب ساعة المفاوضات إلى الوراء.

وبالرغم من أن هذا الحوار المتفق عليه يفتقر إلى تصوّر سياسي واضح، ويكتنفه الغموض في تشكيل الأطراف المتحاورة من أحزاب وهيئات مدنية وكتل برلمانية، فإنّه يبقى جزءاً أساسياً من الحل وفضاء وحيداً للتحاور وتسوية الخلافات في إطار وحدة وطنية تضمن التمايز واختلاف المرجعيات.

إن تباطؤ هذا الحوار مكّن من استفحال شبح الاحتقان الاجتماعي والفوضى، ومن بروز ظاهرة غريبة عن المجتمع التونسي تتمثّل في صعود لافت لدعوات شعبوية عنيفة مرتبطة بالتطرف العقدي وانتعاش نعرات جهوية فئوية غاوية للانفصال. تحدث هذه الانحرافات في ظل تفكك سياسي وحزبي تطبعه علاقات عدائية، امتدت للأسف إلى النخبة المثقّفة نفسها التي لم تستطع أن تمارس دورها التاريخي في أن تكون قوّة اقتراحية مؤثرة.

لم تنتبه هذه الأحزاب المتصارعة من منطلقات ذاتية وريعية إلى استنفاذ أدوارها التقليدية وضمور خطابها الرثّ حول الإصلاح، واستحقاقات الثورة، ومحاربة الفساد، وتنمية المناطق، لأن المعاني السامية لهذه الشعارات الكبرى قد أصيبت في مقتل لما اكتشف التونسيون تناقض الخطاب والفعل، وتذبذب الفاعل السياسي بين مصلحته الذاتية وبين المصلحة العامة التي تقتضي كثيراً من التضحيات ونبذ الذات.

لم ترد تلك الأحزاب أن تقدّر كلفة فقدان ثقة التونسيين في الدّولة والمؤسّسات ومنها الأحزاب نفسها، ولم تستوعب بعد تحوّل هذه الثقة إلى قيمة تمجّد العنف والكراهية، وتُعلي من العبث في الفضاء العمومي، الذي أصبح يفتقد أي توجيه سليم أو تأطير عقلاني.

ما ينبغي تأكيده، أن تونس الآن، وهي تستقبل الذكرى العاشرة للإطاحة بنظام زين العابدين بن علي، لم تتمكن منذ يناير 2011 من القراءة الواعية لتحولات المجتمع والتحدّيات السياسية المفترضة، ولم تستوعب جيداً مشروع حزب النهضة في تفتيت الدّولة القائمة وبناء دولة إسلاموية تستند إلى منظور دولة الخلافة.

كما لم تتنبه هذه الأحزاب المتصارعة إلى أن ما يحدث اليوم هو من صنيع حركة النهضة، وأن كل محطّات الأزمة كانت وراءها بتكتيكات مختلفة وقد جنّدت فيها آلتها الإعلامية بمهارة عالية.

لا أدري لماذا لم تتساءل الدولة والأحزاب المتناحرة أن صيغة الاحتجاجات الجهوية ولجوء قادتها إلى شل الاقتصاد كغلق مضخة النفط بمنطقة الدولاب وتعطيل إنتاج الفوسفات بولاية قفصة وإغلاق المنطقة الصناعية بولاية قابس؟ إنها صيغ مدبّرة تشبه كثيراً ما حدث مع داعش في سوريا والعراق.. فهل يعقل أن يكون لهذه الاحتجاجات العشوائية التي يقودها البسطاء في الجهات وعي موحّد وتنسيق مسبق بشلّ المرافق الاقتصادية جهوياً لتشمل ما هو وطني؟

بالتأكيد هناك رأس مدبّرة وخطّة موضوعة بإتقان.. فهل سُتعجّل الدولة وسياسيو تونس بوعي هذه الخلفيات، من خلال عقد حوار وطني حذِر ومسؤول، يكون محطة مصيرية لمستقبل تونس؟