لطالما اشتكت بعض المنابر المسيحية في لبنان من ظلم أصاب موقع الرئاسة في لبنان بعد اتفاق الطائف. بنى "التيار العوني" سردياته على هذه المظلومية على قاعدة أن اتفاق عام 1989 سلب من الموقع المسيحي الأول صلاحيات كان يتمتع بها منذ قيام الجمهورية. وفيما منح الأمر حجّة للرئيس مذاك بالتعذّر بالقدَر لتبرير قلّة الحيلة، على طريقة "ما خلونا"، فإن للتاريخ أدلة عن احتفاظ الموقع بالأهمية السامية التي تفسّر الأزمات الكبرى التي شهدها البلد كلما اقترب استحقاق انتخاب رئيس جديد. لا تتغيّر هذه القاعدة عن ظروف انتخاب الرئيس المقبل للبنان. وعلى أساس هوية هذا الرئيس تتحدد سمات الهوية السياسية المقبلة للبلد. ولو كان منصب الرئاسة صورياً، لما احتاج البلد إلى نزف دموي حين قررت وصاية دمشق التمديد لحليفها إميل لحود، ولما ذهب السلاح إلى وقاحته الكبرى في 7 أيار (مايو) 2008 لعقد صفقة انتخاب ميشال سليمان ولا أوصدت أبواب البرلمان لفرض انتخاب ميشال عون عام 2016. جرت أعراف انتخاب رئيس الجمهورية منذ "الطائف" تحت قواعد وصايتين. واحدة تعلّب الاستحقاق في دمشق حتى عام 2005، عام خروج القوات السورية من لبنان. وواحدة تُفرض من طهران من خلال جلافة قوة يفرضها حزبها في البلد. وبدت تلك المواعيد منتجة لوجوه رئاسية تتّسق مع تلك المرحلة وموازين قواها الإقليمية والدولية. والأمر لم يكن جديداً على حكايات الانتخابات الرئاسية منذ الاستقلال، وندر أن كانت صناعة الحدث محلية القرار متحرّرة من أجندات الخارج. لا شيء يجعل من الانتخابات الرئاسية المقبلة خارج هذه التقاليد وهذا المألوف. ولا يملك البلد أساساً مقوّمات معاندة "لعبة الأمم" وحراك بيادقها. وإذا ما كان مطلوباً من الرئيس اللبناني أن يكون ثمرة الموازين الخارجية قبل الداخلية، يُفترض أن تخرج من صناديق الاقتراع في مجلس النواب اللبناني، واجهة تتّسق مع ما أنتجته الزلازل الإقليمية منذ "طوفان الأقصى" في غزّة، مروراً بالحرب الأخيرة في لبنان، انتهاءً بسقوط نظام بشّار الأسد في سوريا مطلع الشهر الماضي. تغيّرت جداً موازين القوى، ولا يملك لبنان، رغم عناد بعض تياراته ومكابرتهم، أن لا يأخذ ذلك في الاعتبار. فقدت طهران بعد دمشق جدارة الإملاء على برلمان البلد ومشهده السياسي، كما فقدت العاصمتان وجاهة أن يأتي رئيس لبنان متّسقاً مع أجنداتهما. وإذا ما أظهر "الثنائي" معاندة، فإنها تبدو شكلية، تشتري الوقت، وربما الوهم، لاجترار زمن ولى. ولئن تنكفئ طهران وترتبك بانتظار ما تحمله الإدارة الجديدة في واشنطن، فإن دمشق تعلن في حدثها الكبير واقعاً جديداً، على بيروت أن تتأمله بعناية وتستخلص دروسه وتداعياته على لبنان. وجب على الرئيس الجديد للبنان أن يدرك أن الحدث السوري هو تحوّل إقليمي دولي جامح لا يبقى للبلد إلا الالتحاق به. تكفي مراقبة الاحتضان، في نسختيه، العاجلة والمتدرّجة، من قبل تركيا والعالم العربي وعواصم القرار الدولي، لاستنتاج أن العالم يتموضع من جديد على توقيت دمشق. تفقد طهران وموسكو، بنسب مختلفة، نفوذاً في الشرق الأوسط وإطلالة محتملة على البحر المتوسط. يتقدم العالم العربي لاحتلال حيّز واسع مما كان قبل أسابيع فقط داخل نفوذ إيران منذ عقود. تدق أوروبا والولايات المتحدة أبواب العاصمة السورية راسمة من هناك خرائط جديدة، وربما طويلة الأجل، لتوازنات الكوكب. أمام لبنان فرصة تاريخية، وربما مجانية، لاستعادة وجهة فقدها في عهود الوصايات القهرية المباشرة. والحذر الحذر من الانزلاق مجدداً إلى ارتكاب خطيئة الجزع من ركوب التحوّلات الكبرى عبر الخضوع لصفقات لا تقرأ التاريخ، على منوال تخريجة "الاتفاق الرباعي" عام 2005. لا يمكن أن يرأس لبنان وجه مستفزّ للعالم العربي مستهتر بتبدل الأوزان في هذا العالم. ولا يمكن أولاً وأخيراً، أن يأتي رئيس يعاكس رياح سوريا الجديدة ولا يكترث بتغير البوصلة هناك، بما في ذلك وعد قائد الإدارة الجديدة هناك، أحمد الشرع، بأن "سوريا لن تكون حالة تدخل سلبي في لبنان على الإطلاق وستحترم سيادته ووحدة أراضيه واستقلال قراره واستقراره الأمني". كان مسعد بولس، الذي عيّنه الرئيس دونالد ترامب مستشاراً للشؤون العربية وشؤون الشرق الأوسط، قد تحدّث عن الاستحقاق الرئاسي ناصحاً بالعمل عليه "بدقة من دون تسرّع بشكل غير مدروس". ذهب إلى نصيحة من ذهب: "من صبر أكثر من سنتين على الفراغ، يمكن أن يصبر شهرين أو ثلاثة ويعمل على الأمر بشكل متكامل ودقيق بعيداً عن التسرع". نصيحة تشبه الوعيد ضد من لا يقرأ الحسابات الجديدة.
- آخر تحديث :
التعليقات