سلاماً كافكا!
القلب يعتصر، فكما ضيعنا الجزائر المستقلة الديمقراطية المتعددة التي لطالما حلم بها الشهداء والمجاهدون وهم يخوضون حرب التحرير التي اندلعت في أول نوفمبر (تشرين الثاني) 1954، ضيعنا أيضاً الجزائر الجديدة المعاصرة العادلة التي حلم بها شباب "الحراك" الشعبي الذي عمّ البلاد في 22 فبراير (شباط) 2019، لذا فكل شيء ممكن في الجزائر، وقلبي يعتصر.
أتخيلُني، يحدث هذا منذ الطفولة ولا يزال، وكأنني أمشي في موكب جنائزي، والجثة المحمولة على الأكتاف في محملها، لا هي بميتة ولا هي بحية، أشعر وكأني في حلم كابوسي يتجدد.
سلاماً كافكا
كل ما يحيط بنا فوضى الأشياء، فوضى الكائنات، فوضى الفوضى، إننا نعيش الغرائبي، فكل شيء مؤقت ودائم في الوقت نفسه، المؤقت الذي يدوم حياة وحيوات، المؤقت الذي يطحن أجيالاً وأجيالاً.
على سبيل المثال، يا كافكا، هذه القنوات التليفزيونية التي تسمى "خاصة" هي ليست خاصة، وهي ليست أيضاً أجنبية، وهي ليست قنوات الدولة، وهي ليست عمومية، إنها قنوات جزائرية!
هذه القنوات التليفزيونية التي تشبه قنوات الصرف الصحي، أكرمك الله، تقوم بمهمة المسجد، تؤذن وتنقل الصلاة، وتقوم بمهمة دار الإفتاء تفتي تحلل وتحرم، وتقوم بالشعوذة والرقية الشرعية، وتفسر الأحلام للضائعين من البنات والمراهقات والعجائز اللواتي تقطعت بهن سبل الحياة في الجنس والمال والبنين، وتقوم بدور وكالات التزويج والتعارف والمواعيد على سنة الله ورسوله!
ومثلنا مثل الدول الراقية في بلاد الكفار، لنا مؤسسة تسمى سلطة الضبط السمعي البصري، ولكنها لا تسمع ولا تبصر، أو هكذا يبدو لي!
سلاماً كافكا
مثلاً، يا سيد كافكا، في الجزائر العمل عطلة مفتوحة ودائمة، والعطلة المفتوحة الدائمة لها معنى واحد، استراحة الموظفين عند قدم البنايات المتعبة، والجميع يمارس بحب وشغف حَكّ الظهر بالجدار طوال أيام العطلة التي لا تنتهي، يَحُكون ظهورهم إلى الحائط وهم ينتظرون شهر رمضان المبارك، يَحُكون ظهورهم وهم ينتظرون أذان الصلوات الخمس، يَحُكون ظهورهم إلى حائط العمارة وهم يعلقون على مباراة كرة القدم ما بين البارشا والريال مدريد، يحُكون ظهورهم إلى الجدار وهم ينتظرون بشغف وصول شاحنة حليب الأكياس البلاستيكية، وحين لا تجيء شاحنة أكياس الحليب البلاستيكية، بهدوء يعودون لحَك ظهورهم بالجدار وينتظرونها لليوم الموالي.
سلاماً كافكا!
في الجزائر، يمكن لأي أحد أن ينحت لنفسه أو لبطل من صنع خياله تمثالاً بالحجم الذي يريد، بمترين أو أكثر، من الصلصال أو الصخر أو البرونز ويرفعه أمام بيته أو بالساحة العمومية أو على الرصيف، لا أحد يمنعه ولا أحد يجازيه، ويمكنه حتى أن ينفخ الروح فيه ويلبسه لحماً إن أراد! إنه بالجزائر!
في الجزائر، يمكن لأي أحد أن ينشئ جائزة أدبية باسمه أو باسم أبيه أو جاره أو زوجته أو قريته، لا يهم، بقيمة مادية أو من دون قيمة، عربية أو دولية، ولا أحد يمكنه أن يمنعه ولا أحد مطالب بشكره، إنها الجزائر.
في الجزائر، يمكنك أن تصبح روائياً أو روائية من دون أن تكون قد قرأت رواية واحدة في حياتك، يا كافكا!
وفي الجزائر، باستطاعتك أن تؤسس حزباً سياسياً من دون أي مناضل أو منخرط أو حتى متعاطف، وقد يتحول هذا الحزب نظراً لخلافات داخلية بين الأعضاء غير الموجودين أصلاً، فينقسم إلى خمسة أحزاب أخرى من دون مناضل واحد أو منخرط واحد أو متعاطف واحد، ويدخل الحزب الانتخابات البلدية والوطنية والرئاسية، فيا سبحان الله يا كافكا!
في الجزائر، حاربنا فرنسا بالفرنسية، وطردنا فرنسا بالفرنسية، وعربنا البلد بالفرنسية، والنتيجة ضيعنا الفرنسية وسلمنا الجزائر للإخوان المسلمين ولم نتعرب، وفي كل ذلك اغتلنا الأمازيغية.
قلبي يعتصر يا كافكا
في الجزائر، يا كافكا، يمكنك فتح أبواب محلك التجاري كل أيام الأسبوع بما فيها عطلة نهاية الأسبوع والأعياد أيضاً، تفتح الساعات التي تعنّ لك، على ذوقك ومزاجك، ويمكنك أن تغلقها كما يحلو لك، ولا أحد يمكنه أن يمنعك ولا أحد يمكنه أن يسمح لك بذلك. وفي الجزائر، وكما في الدول الراقية، دول الكفار، لنا مفتشية عامة للعمل، ولنا نقابة للعمال بنقابيين ملتحين وغير ملتحين، ولنا وزارة للعمل هي الأخرى تحك ظهرها إلى جدار بناية الوزارة نفسها، وإنها الجزائر يا كافكا.
سلاماً كافكا، هذا ليس فصلاً من رواية كفكاوية، إنه اليوم الجزائري للمواطن الجزائري، بالمناسبة يا كافكا، سائق سيارة الأجرة في الجزائر هو من يختار لك اتجاهك ووجهتك، ويختار لك الموقف الذي تنزل فيه، وإذا لم يعجبك الأمر فارحل أو اذهب على رجليك، ولا أحد يستطيع أن يمنع ولا أحد يسمح له بذلك، وسائق التاكسي في الجزائر يمكنه أن يعمل ليلاً ونهاراً من دون انقطاع، ويمكنه أن يشتغل أيام الأسبوع كلها، ويمكنه حين يعنّ له ذلك أن يغطي شارة سيارة التاكسي المرفوعة على السطح بغطاء خاص، يركن المركبة، ويدخل المقهى، أو يسافر إلى فرنسا أو يذهب في اليوم التالي لأداء العمرة أو يتزوج! إنك في الجزائر يا كافكا.
يحدث في الجزائر يا كافكا، برخصة أو من دون رخصة، لا يهم، أن يحول الشخص المرأب الخاص بسيارته إلى مدرسة لتعليم القرآن أو لاستدراك الدروس والمدفوعة الأجر في الفيزياء والرياضيات وعلوم الأرض والكمياء واللغة الأجنبية، ولا قوة تمنعه ولا قانون يسمح له.
وفي الجزائر يمكن لمصلح عجلات المركبات، ومع حلول رمضان المبارك، أن يحول محله من مهنة تصليح العجلات إلى صناعة وبيع الحلويات الموسمية المحلية، الزلابية والمحاجب والبوراك! والأمر مربح يا إلهي!
سلاماً كافكا
في الجزائر، يحدث هذا، تباع في محل الخردوات la quincaillerie، كما في العالم الراقي عند الكفار، أدوات التصليح والمسامير والصباغة والبراغي وغيرها، ولكن الغريب في الأمر، يباع مع هذه المواد نوع من التمر، التمر المجفف في أكياس بلاستيكية شفافة! هل فهمت يا كافكا لماذا أنت في الجزائر؟
قلبي يعتصر...
سلاماً يا كافكا، في الجزائر، إننا نسبّ فرنسا الاستعمارية في نشيدنا الوطني كل يوم، ونحن ننشده بوطنية جياشة في الأعياد الوطنية والأعياد الدينية وفي الملتقيات العلمية الأكاديمية، لكن حقوق هذا النشيد الوطني الذي نسبُّ فيه فرنسا الاستعمارية مسجل في (ساسيم) الشركة الفرنسية لحقوق المؤلفين والملحنين وناشري الموسيقى، فكلما شتمنا فرنسا الاستعمارية من خلال النشيد الوطني بحماسة تقبض فرنسا المعاصرة مالاً من خزانتنا، وكلما أنشدناه كثيراً وشتمناها أكثر أخذت مالاً أكثر.
الآن هل فهمتَ يا كافكا كيف تكْتبُ رواية على الطريقة الكفكاوية؟
التعليقات