أَيليقُ بي أنْ أكتبَ موتَكَ مستخدمًا صيغةَ الفعل المجهول، الذي تناقلتُه وسائلُ الإعلام والتواصل الاجتماعيّ، “وُجدَ لقمان سليم مقتولًا في سيّارته بخمسِ طلقاتٍ ناريّة، أربعٍ في الرأس وواحدةٍ في الظَّهر”؟!

أَتليقُ بي ركاكةٌ كهذه، أَيليقُ بي خذلانٌ كهذا، وقد كنتَ جنينةَ وردٍ عصيّةً في صحراء مستجيبة، وقد كنتَ باشقًا متمرّدًا، ونسرًا ثاقبَ الضوء، في سماءٍ ملبّدةٍ بأسرابِ النيامِ والغربان ونعيق البوم؟! أَيليقُ بي أنْ أتوارى وراءَ مكرِ الكلماتِ الملتبسةِ والفضفاضة، وقد كنتَ وجعًا لغويًّا وعقليًّا يقضّ رؤوسَ تجّارِ الحقيقة وسماسرةِ الفضّة والمرتزقة والعملاء؟!

وإذا افترضَ أحدُهُم، مأخوذًا بالقول الشائع، أنّ الكلامَ كلّه عند العرب صابون، أيفترضُ بكلّ مَن يختارُ مخالفةَ الجماعةِ، والجهرَ بما ينبغي للحرِّ الفردِ أنْ يجهرَ به، أنْ يكتفي باستخدام صيغة “واو الجماعة”، وضمير الـ “هم”، للإيماء – مواربةً – إلى مَن أخذكَ غيلةً، حيث يستحيلُ أنْ يؤخذَ أحدٌ بالغيلة أو بالتجهيل، ولا حتّى – أكاد أقول – قضاءً وقَدَرًا؟!

حيث السماءُ ملبّدةٌ بيدٍ واحدةٍ، بنصٍّ قسريٍّ واحدٍ، هل يجب – بالإلغاء – ألّا يكونَ ثمّةَ عشبةٌ نابتةٌ على جدارٍ ميتٍ، ولا كتابٌ آخرُ، ولا حرفٌ زائدٌ، ولا حرفٌ ناقصٌ، ولا نسرٌ، ولا باشقٌ، ولا أيضًا عندليبٌ، ولا خصوصًا نسمة هواء؟! هل يجب أنْ تكونَ ثمّةَ فقط كتلةٌ دهريّةٌ أزليّةٌ أبديّةٌ متراصّةٌ، ورأيٌ واحدٌ أحد، من أجل أنْ تكون الأوركسترا خاليةً من أيِّ عزفٍ منفردٍ، أو من أيِّ خروجٍ على سربٍ وجماعةٍ أو “فرقةٍ ناجيةٍ” لا يعرف أحدٌ أين هي في لبنان هنا، ومَن نجا منها؟! ومن أجل أنْ يكون الغدُ، وكلُّ غدٍ محتمل، مرآةً ليقينٍ لا يجدرُ بأحدٍ (لا يحقُّ لأحدٍ) أنْ يضعَهُ موضعَ سؤالٍ أو نقاشٍ أو إعادةِ نظر؟!

وها هنا، تحت مثلِ هذه السماءِ العليلة، سرعانَ ما يُهرَعُ إلى التلقينِ والترويعِ والتلفيقِ وغسلِ الأدمغةِ والتكفيرِ وترويجِ التهمِ الجاهزةِ بالعمالةِ والارتزاقِ والانصياعِ للصهيونيّة والإمبرياليّة، وهلمّ.

فكيف لشجرةٍ، لقرميدةٍ، لنقطةِ حبرٍ، لكلمةٍ، ألّا ترتجفَ خوفًا وهلعًا؟!
وما كنتَ أنتَ، لترتجفَ، ولا لتخافَ، أو تهلع، بل كنتَ تومضُ، وتكشفُ الرأيَ، وتفتحُ الطريق!
وكم كنتَ ماهرًا لاذعًا قارصًا كثيرَ الشوكِ، كوردةٍ منيعةٍ وشقيّة، مرشدًا كنجمةِ مجوس، بارقًا كذكاءٍ نادرٍ، كالتماعةِ عينٍ في ليلةٍ مدلهمّة. والآن يقولُ ناظرٌ إليكَ قتيلًا: يا لحلكةِ هذه الليلة، ويا لنظرتِكَ التي كانتْ تشقُّ البحرَ شقًّا، للبحثِ عن منفذٍ، وكانتْ تقصُّ مسمارَ العتمةِ قصًّا مهيبًا، لكشحِ الجريمةِ عن وجهِ الفجر!
وكم كنتَ، في هذا كلِّهِ، قاسيًا على ذاتِك يا ابنَ محسن سليم وسلمى مرشاق!

وكم كنتَ، كلّما كانت تتضاعفُ الأعاصيرُ حولَ أفكارِكَ وآرائِكَ وكلماتِكَ ودارتِكَ، كم كنتَ تزدادُ كرامةً، ووهجَ قرميد. وكم كنتَ، كالشجراتِ التي في فناءِ الدارةِ تلك، تزدادُ ثباتًا ورسوخًا. وكم وكم كنتَ، كلّما كانتْ تعصفُ بمركبِ براهينكَ الأنواءُ، وتحاولُ أنْ تشلّعَ أشرعتَكَ الخفاّقةَ الهازئة، كم كنتَ لا تستنجدُ بأحدٍ، ولا بغريبٍ، بل تفلشُ على الطاولةِ، جملةَ العقلِ والوثائقِ والبياناتِ والتواريخِ والأرقامِ والصوَرِ والنصوصِ والأدلّة، لتكونَ صفعةَ يقينٍ مدوّية على خدِّ الزمنِ اللئيم.

ويُقال الآن إنّـ(هم) ضاقوا ذرعًا بكَ، لأنّكَ لا تتدجّنُ، ولا تُهادنُ، ولا تستكين، وليس في مقدورِ عقلِكَ أنْ ييأسَ، أو يُصابَ بإحباطٍ، أو يرتجَّ له ميزان.
ويُقالُ الآن إنّـ(هم) سيواصلون الاستخفافَ بجملةِ العقلِ والوثائقِ والبياناتِ والتواريخِ والأرقامِ والصوَرِ والنصوصِ والأدلّة، وسيزدرون القرميدَ، وكلَّ وهجٍ مختلفٍ، ورأيٍ سديد.

ولماذا سيواصلون الاستخفاف، وهم قد ضاقوا ذرعًا بكَ، يا ترى، وبغيركَ؟ ألأنّكَ نصبتَ لـ(هم) مدفعًا أو هاونًا أو صاروخًا، فوقَ سطحِ الدارةِ المهيبةِ في الحارةِ المهيبة، ورحتَ تُجندلُ مَن يخالفكَ رأيًا وقولًا، أم لأنّكَ وشيتَ بـ(هم)، وعرّضتَـ(هم) للتهلكة، أم فقط – ولا شيء سوى هذا الفقط – لأنّكَ كنتَ تقولُ قولَكَ معزَّزًا ببداهاتِ الحقيقة، بنصاعةِ التاريخ، بجوهرِ الفكر، بهيبةِ الفلسفة، بوجعِ المنطق، وجدليّاتِ الوقائعِ وحوادثِ الدهر، متماسكَ العقل، مرفوعَ الرأس، ثابتَ البنيان، على هديِ المدرسةِ الوطنيّة التي تنشّأتَ عليها، بعدما تشرّبتَ ماءَها السلسبيل، وحبرَها النقيّ الأبي، ورحاباتِ أخلاقيّاتِها ومعاييرها؟!

ويجب أنْ يُطرَحَ الآنَ هذا السؤالُ المأسويُّ العظيم: وشيعتُكَ البهيّةُ، إلى أينَ تؤخذُ في هذا الليلِ البهيم؟
ألا يكفي لبنانَ، إلى أينَ أُخِذت المارونيّةُ، والسنّيّةُ، والدرزيّةُ، على دروبِ المهالكِ التي لم تنجُ منها، وفيها، ولا “فرقةٌ ناجيةٌ” واحدةٌ، كما هي حالُ لبنان وحالُ الفِرَقِ كلِّها فيه، ولا استثناء؟!

أيجبُ أنْ يظلَّ لبنانُ “ساحةً” لمنطقِ “الأرضِ الخراب” أو لمنطقِ “الأرضِ المحروقة”، إلى أنْ لا يبقى فوقَ هذه الأرضِ إلّا الحريقُ والخراب؟!
لن أرثيكَ يا لقمان، ولن أبكيكَ، ولن أتفجّعَ عليكَ، لئلّا أحرفَ النصَّ عن غايتِهِ، ولئلّا – حاشا – أستدرَّ الإشفاقَ على حالٍ، ليست هي الموضوع، بأيِّ حالٍ من الأحوال.

فلتكن حرّيّتُكَ الجامحة الفرسَ الحرونَ، مهداةً إلى كلِّ فارسةٍ وفارسٍ يختارُ الحقَّ والحقيقةَ والرحابةَ العقليّة والحرّيّةَ و… شقاءَ الوعر، وصولًا إلى لبنان!
و… بعد، إذا كان لا يليق بي أنْ أكتبَ موتَكَ مستخدمًا صيغةَ الفعلِ المجهول، أَيليقُ يا ترى، بالحقِّ، بالقضاءِ، بالعدلِ، بالقانونِ، أنْ يكتبَ موتَكَ – عندما يوثّقُهُ – مستخدمًا هذه الصيغةَ، أو أنْ يضمَّ جريمةَ اغتيالِكَ إلى جملةِ الجرائمِ التي بقيتْ بصيغةِ الفعلِ والفاعلِ المجهولَين؟!