في (20 يناير 1941)، قبل 80 سنة، كانت مي زيادة هنا، في الجامعة الأمريكية، بالقاهرة تلقي آخر محاضراتها أمام جمهور مأخوذ بها وبما سمعه عنها في بيروت، بعد أن قضت قرابة السنة في العصفورية، ظلماً، وبعد أن تخلى عنها أغلب معارفها وأصدقائها ورواد صالونها.

لم تنجُ من مخالب الموت قهراً وصمتاً إلا عندما أخبر أحفاد الأمير عبدالقادر، أحمد ومختار والسيدة بدرية المتصاهرون مع عائلة الأيوبي الشامية، قدوم عائلة الجزائري الأمير السعيد، عن حالة مي زيادة المزرية، التي التقوا بها في مستشفى رابيز في بيروت، فتدخل مع الأمير عبدالله، ملك الأردن، الذي كانت تربطه به علاقة طيبة، وأخبره عن حالتها ليتدخل على مستوى رئاسة الجمهورية اللبنانية، وتم تحريك ملفها لأول مرة.

زكتها بعد ذلك جهود أمين الريحاني، وانتهى الأمر باختبار عقلها في محاضرة ألقتها في الجامعة الأمريكية، بيروت: رسالة الأديب إلى الحياة العربية، قدمتها في ويست هول يوم 22 مارس 1938 انتصرت فيها للعلم والنور والثقافة ولرسالة الأديب النبيلة.

خرجت من سجنها بفضل قوتها التعبيرية، إذ حضر القضاة والمحامون محاضرتها واستغربوا كيف لامرأة بهذا المستوى العقلي أن تتهم بالجنون، عادت بعدها إلى القاهرة في 1939 وقطعت كل علاقاتها القديمة، واعتزلت الناس.

ولأنها كانت تريد أن تثبت رجاحتها العقلية، استجابت لدعوة الجامعة الأمريكية في يوم الاثنين 20 يناير 1941، ألقت محاضرتها «عش في خطر، للآنسة مي» على الساعة الخامسة والنصف، بالقاعة الشرقية، وحضر حشد كبير من الناس ساقه العلم والفضول أيضاً، بعد أن أصبح جنونها مشاعاً في الوسط الثقافي.

كانت لديها قوة إقناع كبيرة في شكل الخطابة وبالاستناد إلى الأمثلة الحياتية ودفع الإنسان إلى مجابهة المصاعب والمخاطر بشجاعة: ويقول وديع فلسطين عنها: إنه عندما استقوى أقرباء مي عليها، واستضعفوها واستدرجوها إلى لبنان وأودعوها مستشفى العصفورية للأمراض العصبية، قاموا بتوقيع حجر على ممتلكاتها، ولم تكن تزيد على أمتعتها المنزلية الشخصية، وعلى أموالها، ولم تكن تزيد على بضعة آلاف من الجنيهات، وظل الحجر قائماً لا تستطيع معه التصرف في مالها وأشيائها عند عودتها إلى مصر.

وكان المحامي مصطفى مرعي بك من محبيها ومن المدافعين عنها، وهو من عرض على مدير قسم الخدمة العامة بالجامعة الأمريكية فكرة أن تقوم «مي» بإلقاء محاضرة ضمن برنامج المحاضرات العامة، التي كان القسم ينظمها على مدار السنة، فرحب بالفكرة، واستجابت «مي» بتلبية الدعوة، وكان المحامي مصطفى مرعي بك قد طلب من مسؤول الخدمة العامة أن يدعو القاضي الذي ينظر في رفع «رفع الحجر» عن ممتلكاتها في القاهرة، فلبَّى الدعوة، واستمع إلى المحاضرة وخرج من قاعة الضيافة في الجامعة الأمريكية وهو يتساءل، كما فعل قضاة بيروت من قبل: «أهذه مجنونة؟ إنها أعقل مني».

وفي الجلسة الأولى قضى بإلغاء الحجر، لكنها توفيت بعد تسعة أشهر، في يوم 18 أكتوبر 1941، ولم يرفع عنها الظلم كليّاً.