لقي تنصيب الحكومة المُعدلة في الخرطوم مؤخراً الرضا والقبول في أوساط الرأي العام السوداني، وتمثل هذه المبادرة خطوة جديدة في اتجاه معالجة الجروح السودانية النازفة منذ وقت طويل، وتمنح الجماعات المتمردة السابقة فرصة الاستفادة من المعدات اللوجيستية للدولة، وتبدو الفكرة كأنها تندرج في إطار محاولة احتواء كافة القوى السياسية في السودان.

كان من الأفضل لو تمّ التعامل مع هذه المبادرة بشيء من الحيطة والحذر، وخاصة بعد أن شهدت الأيام الأخيرة سلسلة من أعمال الشغب وإشاعة الفوضى العامة امتدت من حيّ «الأُبيّض» في الخرطوم حتى منطقة سدّ «السنّار» الواقعة على ضفاف النيل الأزرق، احتجاجاً عل الارتفاع السريع في تكاليف المعيشة وأسعار المواد الأساسية، وهي أشبه ما تكون بالانتفاضة التي وقعت قبل عامين ضد نظام «الإنقاذ».

لقد بدت الحكومة المركزية عاجزة عن التحكم بسعر صرف الدولار الأمريكي وتوحيد سعره في الأقاليم المختلفة، من أجل تنظيم عمليات استخراج الذهب الذي يشكل المورد الرئيسي للبلاد وخاصَّة بعد رفع الحظر المفروض على المساعدات الدولية التي تصل إلى السودان، فعمد رئيس الوزراء عبدالله حمدوك للتخلص من كافة الوزراء السابقين فيما عدا خمسة منهم، واستدعى 20 وزيراً جديداً اعترافاً منه بفشل أداء حكومته السابقة.

ويقتضي منَّا الإنصاف والحكم على الأمور بطريقة عادلة القول: إن مهمته لم تكن سهلة، وكان في وسعه عرض فكرة العمل باتفاقية جوبا لشهر أكتوبر 2020 على معظم الجماعات المسلحة والحركات السياسية، لكن لم يُكتب لهذه الفكرة النجاح بسبب رفض بعض القوى لمبدأ فصل الدين عن الدولة، والذي يمكن أن يؤدي لاستبعاد جماعتين مسلحتين، وأيضاً بسبب تجدد عمليات القتل في دارفور.

ومن بين أولئك الذين وافقوا على الفكرة، وزير المالية الجديد جبريل إبراهيم الذي يقود حركة العدالة والمساواة منذ مصرع أخيه خليل عام 2011، وهو المقرّب من المرحوم حسن الترابي، وانبثقت هذه الحركة المتمردة في دارفور من قبائل «الزغاوة» التي تحوّل فيها رعاة الإبل من غير العرب للعمل في التجارة الدولية وتهريب السلع والبضائع، ومن المحتمل أن يحرص الوزير على تزكية أعمال أتباعه وتعزيز العلاقات مع الجماعات الإسلامية السياسية في ليبيا.

وفيما يتعلق بوزيرة الخارجية الجديدة مريم الصادق المهدي التي تمثل «حزب الأمة» الذي يعد فرعاً من الحركة المهديّة، وهي ابنة رئيس الوزراء السابق الصادق المهدي الذي توفي شهر نوفمبر الماضي، فيعرف عنها الصخب والضجيج السياسي العنيف الذي تثيره في الخارج أثناء ترويجها لفكرة الطبقية التجارية القديمة (الأوليغارشية). إلا أن والدها الراحل كان يُعتبر المسؤول الأول عن انقلابين عسكريين حدثا عامي 1969 و1989 واللذين قادا السودان إلى حالة من الفوضى واليأس، وكان يرفض مطالب الأقوام السودانية المهمشة.

ولا يبقى أمامنا إلا أن ننتظر ونرى ما الذي يمكن أن يفعله هؤلاء السياسيون المحنّكون وذوو الخبرة العريضة لإنقاذ بلدهم.