حاول الإنسان القديم الذي عاش بالجزيرة العربية في عصر فجر التاريخ أن ينقل إلينا بعض المشاعر والأفكار الدينية من خلال مشاهد على هيئة رسوم صخرية. وإذا ما كانت تلك الرسوم خلال العصر الحجري القديم أكثر محاكاة للطبيعة وقرباً منها، إلا أنها بدأت تنزع إلى التجريد والرمزية خلال مراحل العصر الحجري الحديث وما تلاه من فترات زمنية، حيث كانت الأشكال على قدر من الغموض في تأويلها ومعرفة مكنوناتها.
هذه هي المقدمة التي كتبت في الكتاب الهام الذي يتناول الأوضاع الاجتماعية في الجزيرة العربية والذي ألفه الباحث الدكتور نايف بن علي القنور. وأعتقد أن هذا الكتاب يعتبر من أهم ما كتب عن تاريخ الإنسان في الجزيرة العربية، لأنه يتناول الحياة في عصور ما قبل التاريخ ويثبت الباحث خلاله أن الإنسان الذي عاش في هذه الفترة لم يكن إنساناً بدائياً كما اعتقد البعض، ولكنه وصل إلى مكانة كبيرة تشير إلى فكره الفني والاقتصادي والديني. واستطاع الدكتور القنور أن يعرف من خلال دراسة الرسوم الصخرية أن هناك معبودات قدست في ذلك الوقت، وأن الإنسان القديم قد مارس عدة معتقدات وشعائر دينية تتصل بهذه المعبودات منها معبودات ذات أشكال آدمية، بالإضافة إلى تقديس الشمس.
وتظهر المعبودات ذات الشكل الآدمي مختلفة في الملبس عن ملابس البشر الذين عاشوا في تلك الفترة. وتظهر حيوانات مصاحبة للمعبودات كالأبقار والثيران والتي كانت لها قداسة وأهمية دينية. ويعتقد أن الثور كان من أهم رموز المعبودات في تلك الفترة، كما كانت الشمس ذات مكانة مقدسة في الجزيرة العربية والتي قام الإنسان بتصويرها في رسوماته الصخرية، خاصة أنها كانت تمثل أهمية كبيرة في حياة الإنسان لأنها تمنح الضياء والدفء، فضلاً عن أنها منظم دقيق للوقت، لذلك توصل إنسان ذلك العصر إلى أن الشمس هي العامل الرئيسي في الظواهر الجوية وفي تناوب الفصول والمواسم، ووسيلة ديمومة الحياة على الأرض. وسوف نجد أيضاً أن القرابين كانت إحدى المظاهر المتصلة بالطقوس الدينية.
وقد عثر الباحث على عدة رسومات في منطقة الدراسة تؤرخ للعصر الحجري الحديث وحتى العصر البرونزي، تصور مجموعة من الأشخاص وهم يقدمون عدداً من الحيوانات كقرابين في مناسبات دينية متنوعة، وكذلك منظر يمثل عدداً من الأشخاص يقفون في صف واحد ويرتدون ملابس مزخرفة، ومنظر آخر ربما يمثل موضوعه مناسبة زواج مقدس، حيث تظهر امرأة تقف أمام معبود وخلفها عدد من الأشخاص يقفون في صف واحد وخلفهم حيوانات. ويعتقد د. القنور أن هؤلاء الأشخاص قدموا إلى هذا المعبود من أجل طلب الحصول على مباركته في إتمام الزواج، أو أن هذا الاحتفال هو زواج مقدس بين معبود وامرأة من عامة الشعب، حيث إن هذا النوع من الزيجات هو بمثابة إحلال روح المعبود في جسد الزوجة، وهو ما كان يعرف في مصر القديمة باسم الزوجة الإلهية.
وأرى أن د. نايف القنور في هذا الكتاب استطاع أن يرسم لنا صورة رائعة عن المعتقدات الدينية للإنسان الذي عاش في الجزيرة العربية في عصور ما قبل التاريخ، وهذه كانت بداية الفكر الديني.