للمدن طريقتها في الاكتئاب، وربما في لفظ أنفاسها.

تتسخ المدن كالأطفال الذين، حين يحتجّون أو يمرضون، يرفضون الاغتسال والأكل، ويتحول لعبهم عنفاً و"زعرنة" مجانية بلا أي هدف، ولا حتى تسلية الإزعاج أو لفت الانتباه. هي "الزعرنة" كتنفيس لمزيد منها، محتقن في مزيد منها. هكذا، لذاتها، وهي تغذي ذاتها بالغضب وقوداً للعبث الشامل.

ما الذي تغير في بيروت؟

ليست فقط مخلّفات انفجار المرفأ. الشوارع المتزايدة حُفرها، تردح. كمٌّ من الغبار لم نكن نراه من قبل. الناس السائرون كأنهم هائمون. قد تشعر، فيما تسير بينهم، برغبة في دلق دلاء من المياه النظيفة في كل الاتجاهات، حولك وحولهم، على رأسك ورؤوسهم. لا لأنهم متسخون، لكنهم يبدون ملبّدين بالخدر. هكذا شعرتُ عندما زرت دمشق للمرة الأولى، أواخر الثمانينات. لرثاثة الحياة لون، وهو رمادي مصفرّ. جبروت النظام، وشظف الحصار الاقتصادي، الداخلي والخارجي، يجعل المدن بيوتاً متروكة، بلا ناس، أو بالناس الملغيين المغيبين إلا من أجساد تقوم بوظائفها الأولى، والتراب يتكدس على حواف الأثاث العام، الأهداب والأنامل والنظرات.

تغيّر في بيروت ناسها الذين كانوا يشبهونها، أو كانت هي تشبههم حينما كانوا أفضل. وهي تغيّرت، طعنت فجأة في السن، وطعنت أهلها الذين لطالما قالوا أنهم لن يتركوها، والآن يسعون لذلك بكل قوتهم، وهي تحرد وتحرن وتزيد بؤسها نكايةً. كان هؤلاء العنيدون في مدينيتهم يتحلون بمَلَكة التأقلم بما هي علامة ذكاء، مرونة من أجل البقاء حينما لا يستلزم البقاء حرباً يومية. كانت للتحديات حلول، وكانوا يجدونها من دون أن ينحدروا أو يُذلّوا. حلول السيستم المنخور بالفساد والفوضى، لكنه كان لا يزال "سيستم"، وكانت لا تزال هيئة دولة. الآن، يتأقلم هؤلاء الأربعينيون والخمسينيون، ما استطاعوا، فقط ريثما يرحلون، فقط ريثما ينخرطون في تأقلم كانوا يرونه أصعب، وصار الآن رحمة وإنقاذاً لا يطاله إلا المحظوظ. تأقلُم السمك خارج بحر بيروت كان، ذات يوم، مرعباً، وأحياناً مضنياً. بيت جديد وعمل جديد (إن وُجد)، ثقافة جديدة وأصدقاء وجيران جدد ربما لا تؤاخيهم الروح وربما لا تأنس لهم كفاية... ولا أحد تعرفه تسلّم عليه في الطريق. هكذا تشيخ مجتمعات الأزمة، بأن تضطر، في كهولتها، أن تعود شابة، لتبدأ من جديد في مكان غريب بأت أقرب وأكثر ألفة وشبهاً بالوجدان من البلد الذي أبصرت فيه النور.

ماذا تغيّر في بيروت، بموازاة الشحّ والندرة، الغلاء، والطبابة والتعليم وانحطاط كل شيء تقريباً؟

إحساس الناس بأنهم متروكون ليقلعوا أشواكهم بأيديهم مع جُزُر الدولة البديلة: هم وحدهم في العلاقة مع أصحاب المولدات والصيدليات، المصارف والصيارفة ومحطات الوقود. ليس جديداً أننا لم نبنِ دولة، لكننا لم نكن مدركين تماماً بأننا نستوطن غابة، وبعضنا الكثير ليس مهيأً ببلطة أو حتى "ست تكّات"، ولا يريد هذه التهيئة. بعضنا الكثير ممن أقاموا الكرنفال الأخير قبل الزوال، في 17 تشرين وقبل وبعد، ما عاد يريد أن يغير شيئاً، بل أن يترك تلال الخراب هذه للديوك الجربانة الصائحة فوق قممها العفنة.

الطوائف ما زالت لا تُسمَّى بأسمائها في الخطاب القيادي الرسمي، لا تسمِّي نفسها إلا قليلاً ولا تسمّي الطوائف غريماتها أبداً، لكن الكل يفهم. هذا لم يتغير. لكن الطوائف الراعية الداعرة المتوترة، صارت أكثر حضوراً من أي وقت مضى، حضور التغوّل والانكماش معاً. تغوّل على "أبناء الجلدة". وانكماش عن المساحة العامة الجامعة، التشاركية التحاصصية، التي ما كانت تعجبنا، نحن الخارجين على طوائفنا، فباتت "الزمن الجميل الماضي". وبدلاً من أن تكون الأزمة مفجّرة الكانتونات، ونفير نهاية قبضاياتها باعتبارهم فشلوا حتى في "القبضنة" و"السلبطة" وما عاد منطقياً استمرارهم، نفخت روحاً جديدة في مليشيات اليوم والأمس، حياة ثانية في أوردة "الغيتوهات"، الخفي منها والظاهر في المدينة... نفسها المدينة المغبرّة المحتضرة. والانتخابات المقبلة ستثبت ذلك. ومَن كان خارجاً على هذه المعادلة، إما هو في إقامة جبرية، في قوقعته المتصدعة، أو سافَر، أو يستعد للسفر،.. أو ميت. والباقون، بعد عام أو اثنين من التطور الانتقائي، سيحملون سلاح الفوضى أو يتدفأون بأرباح الأزمة...