اخفضوا اصواتكم واصوات صفاراتكم وابواقكم ومطارقكم. خاطبوا همساً، وسيروا على رؤوس أقدامكم، فالوطن يحتضر”.
محمد الماغوط

ذاعت في فرنسا قبيل الحرب العالمية الثانية أغنية عنوانها “كل شيء في أحسن حال، سيدتي المركيزة”، كانت قد ظهرت في صيغ فولكلورية كثيرة منذ القرون الوسطى، وورد في “ويكيبيديا” ان “سيدتي المركيزة اصبحت مثلاً في وصف موقف استهتاري أمام حالة يائسة، أو المحاولات الغبية لتغطية الحقائق القبيحة”.

تروي حكاية مركيزة غابت عن قصرها 15 يوماً، ولما عادت، كان الحارس في استقبالها، فسألته كيف أحوال القصر، فقال: “كل شيء على أحسن حال، سيدتي المركيزة، لكن الاسطبل قد احترق”. وسألت عن المطبخ فقال كل شيء على أحسن ما يرام، سيدتي المركيزة، لكن مخازن الطعام احترقت”. وتسير الأغنية على هذا المنوال من السخرية، الى ان لا يبقى شيء، لا في اسوأ حال، ولا في أحسنه.

لم يبقَ شيء سيدي المركيز. لكن “#حقوق المسيحيين” في أجمل وأروع حالاتها. وها هي تلمع في الأعالي.

لذيذة “حقوق المسيحيين”. أعلنها الوزير بيار رفول بأقصى ما يمكن من مودّات وبلاغة وطنية وأدب رفيع: بلّغوا الميقاتي، إما وزيران يضمنان حقوق المسيحيين الخالدة، وإما مصير الحريري. بلد الحقوق والعدل. بلد المساواة والسعادة. بلد أدب المخاطبة.

للمرة الأولى في تاريخ هذا البلد ومآسيه وحروبه ومجاعاته، الناس تحرق نفسها. بدأ الحريق، أبٌ لا يملك اقساط ابنائه المدرسية، على رغم امتلاكه كامل الحقوق المسيحية. ومن يومها امتد الحريق الى كل معالم الحياة وأسس البقاء. ولم يعد لدى الحريق الكبير وقت يكفي لطلب الهويات أو التدقيق في هوايات المركيز. ففي مثل هذا الجفاف الرهيب واليباس القاحط وتراكم القش، ينضب البنزين والمازوت والفيول التافه. وتجف المياه والسوائل ودموع الأمهات والعرائس، والسدود. لكن الحرائق تبقى على توحّشها، تلتهم كل شيء، وترمّد البحر والبر والمال والرغيف و Tout vas tres bien Madame la Marquise.

جماعية تخرج جنازات الحرائق في لبنان. ومجلس الدفاع الأعلى جاهز، ليس فقط للاجتماع، بل لعقد اجتماع استثنائي ايضاً. لو يدري هؤلاء اللبنانيون فقط ماذا يبذل الباذلون من اجلهم، من اجتماعات واستدعاءات وتوجيهات، لكنهم والله لا يدرون ولا يقدِّرون، ولا وفاء فيهم. شعب نقّاق “تقيل” الدم، يفيق كل يوم على مطلب وينام على آخر. يوم يريد حليب أطفال، ويوم يريد أدوية، ويوم يريد خبزاً من عند رفول الاقتصاد، الطوباوي التصريحات. وماذا تريد فوق كل ذلك؟ ولاه شعب، تريد #كهرباء؟ يا اندبوري، بطّل يعجبك السراج والقنديل واغنية فيروز عن الليل والقنديل؟

لولا ثقتي بالزميل مصطفى فحص، نجل العلامة الراحل هاني فحص، لما امكنني ان اصدق كلامه عن كيف تضيء والدته السراج في الليل. كان في القرى ايام يفاعنا، حشرة فوسفورية جميلة تضيء كلها ونسميها “سراج الليل”. ثم جاء فؤاد شهاب وأقسم ألا تبقى قرية في لبنان من دون كهرباء، ولم يعد “سراج الليل” يظهرفي الضوء. وها هو يظهر من جديد في شيخوختنا، علامة التجدد، والتغيير. او الإصلاح. أو البنزين الذي لا وجود له إلا في مخازن السرقة والتهريب والقتل. أو محطات القتل من اجل صفيحة. أو محطات الانتظار والنوم، والدعاء بكل انواعه، ومنها دعاء 98 اوكتان. Mais tout va tres bien Madame La marquise. وخصوصاً، خصيصاً، خصوصة، “حقوق المسيحيين”.

في أي جمهورية نحن؟ قياساً بالأولى، لا أدري. وأخاف ان أدري. الجهل اكثر راحة من المعرفة. والسبب انك لن تغيّر شيئاً، عرفت ام لم تعرف. حكاية ابريق زيت وتفضّل نم. إذا كنت حتى الآن بين القادرين على النوم على معدة غير صافرة وغير كافرة.

هل خطر لك ذات يوم، أن شعبك سوف ينام بلا أن يطفىء الكهرباء، أو يفتح البراد، أو يشعل البوتاغاز؟ جائعاً يحاول أن ينام لكي يحلم بكسرة خبز من فتات الموائد. هل خطر لك ان جمال عكار سوف يحترق؟ ثم يحترق، ثم ينفجر، ثم يموت الأبرياء. ليس من الحريق، بل من بيانات التوجيهات والاجتماعات. صدقني، أنا خطر لي، لست اضرب بالرمل، ولا بالبرجيس، ولكنني اقرأ في الاسماء، ثم لا اعود اقرأ شيئاً آخر. اجلس واتوسل الله ان يخفف قسوة الحظ وفظاظة القدر. يا إله المسلمين والمسيحيين والعالمين واللاادريين، نجّنا من دعاة الحقوق.

معالم القيامة ليست في الكارثة نفسها، بل في الموقف منها. الجزائر تعلن الحداد العام على ضحايا حرائقها، ونحن نرمي رمادهم تحت أقدام نواب، مختلفين في السياسة، متشاركين في اخلاق التهريب. نحن نرتعد من اغلاق المستشفيات والصيدليات والاوكسيجين والطوارىء، ومن قتل رجال الجيش والاطفاء، في حرائق البر والبحر، والسلطة تقدم لنا اجتماعاً آخر لمجلس الدفاع الأعلى. ومع كل حريق تشتعل تهم الكذب. وجميعهم على حق. بفتح التاء او بكسر كل قاعدة من قواعد الأخلاق والشهامة.

عملية تتفيه مشرَّعة للعمل السياسي، وتسخيف مطلق للعمل الوطني. دولة تدفع الشعب الى العذاب والهجرة والموت، وتمنِّنه بما بقي من انفاسه. الدنيا تمطر حجارة وأبابيل وهي تعده بأنها ستمطر غداً المنّ والسلوى. وعيّنت لذلك حارساً مهمته النكران: كل شيء على احسن ما يرام. في حين ان الحريق حوّل كل شيء رمادا، حتى المياه، وجفف كل شيء حتى السدود، وقافلة الوقاحة تسير، لكن الى اين والى متى؟

أفظع النماذج على هزال النكران، حدث بالأمس، في العاصمة الجرداء كابول، منذ سنوات واميركا تعلن ان كل شيء في افغانستان قد دان لها، فإذا كل شيء مثل قصر المركيزة. وإذا صهرُ لبنان العزيز اشرف غني فاراً من عريّ الحقائق وتفاهة القناع.

عشرون عاماً من خداع الذات واحتقار ارادة الآخرين، وضعت اميركا مرة أخرى امام احد اسوأ مشاهد الذل التاريخي، تفر سريعاً تاركة لعدوها افضل انواع الأسلحة والتدريب. من هنا ايضاً، فرّ السوفيات قبل ربع قرن. والبريطانيون من قبلهم. وكان الكونت دورليان قد مرّ من هناك في القرن التاسع عشر وحذَّر دولته: اياكم وهذه الصخور.

يريد جو بايدن الخروج السريع من المنطقة التي يعرفها الاميركيون برمّتها، على انها الشرق الأوسط. لم يترك لهم “طالبان” الانسحاب في هدوء. تداعى كل شيء سريعاً وفرّ المتعاونون كالعادة في كل اتجاه. ويُطلق اسم “المتعاونون” على الخونة تلطيفاً للإثم وإلاّ اضطرت الدولة الى ان تنزل بهم عقوبة الاعدام.