كنت أقرأ طرائف التراث للتسلية، فانتبهت لاحقًا إلى أنها مليئةٌ بالذكاء والحس الفني العالي، وصرت أعدُّها مشاهد كوميدية عالية الحرفيَّة، أو بلاغةً لا يقولها إلا الأدباء، ثم عرفت أن بقاء هذه الطرائف طوال مئات السنين سببه أنها مكتوبةٌ بعناية، سواء كانت كلها طرائف حقيقية، أو تمَّ تأليف بعضها للضحك.
هكذا صارت عندي قراءة الطرائف من طرق التسلية المفيدة. قيل إن الأحنف كان “وسيع صدر”، وصبورًا وبشوشًا، حتى إن أحدًا لم يره غاضبًا، أو عابسًا، المرةُ الوحيدة التي شوهد فيها وهو في حالة تميل إلى الضجر، هي عندما أعطى خياطًا قميصًا، يخيطه له، لكنَّ الخياط كان “راعي طويلة” جدًّا، وكسولًا حالمًا، فحبس القميص حولين كاملين، فأخذ الأحنف بيد ابنه، فأتى الخياط، وقال: إذا متُّ فادفع القميص إلى هذا!”.
لم أستغرب ما قرأته عن أن الأحنف كان بشوشًا رقيقًا، وهو القائل:
أغيبُ عنك بودٍ لا يغيرُه
نأيُ المحل ولا صرفٌ من الزمنِ
فإن أعش فلعلَّ الدهر يجمعنا
وإن أمُت فقتيلُ الهمَ والحزنِ
قد زَيَنَّ الله في عيني ما صنعتَ
حتى أرى حَسنًا ما ليس بالحَسَنِ
وما زلت أحفظ للأحنف بيتًا، أتذكره كلما رأيت عينًا تعبت من البكاء، وما تعب منها الحزن:
من ذا يُعيرُكَ عينهُ تبكي بها
أرَأيتَ عينًا للبُكاءِ تُعارُ؟
معروف أن الجَمال ثروة، وله طاقة جاذبة، تشبه تأثير السحر. نكرر شراء الورد لأنه جميل، ولا نهتم بأنه لن يعيش طويلًا، ونزهد في شراء نبتة عادية، وإن كانت تعمّر طويلًا، وتحصل الوجوه الجميلة على الانتباه بمجرد وصولها، أو وجودها، وأستطيع القول إنهم يحملون “واسطتهم” معهم أينما كانوا، أما أنا ومَن مثلي، فعلينا أن نُثبت أقصى مراتب الأخلاق والإخلاص والصدق، وأن نحاول إجادة مهن إجادة تامة، ونتعلم أحسن الكلام، ونكون ودودين صبورين وعاذرين لغيرنا، وألَّا نخطئ، ونعتذر من شبهة الخطأ قبل أن يثبت أنه خطأ، ونرضى بما هو متاح، كل هذا لكي يكون “واسطتنا” لكسب البقاء، وأن تُعطى لنا فرصة للكلام قبل أن ينفض المجلس. ومما عاناه رفيقنا الأسبق أبو العيناء ما سأنقله لكم لعل الوسيمين يدركون ما يلاقيه زملاؤهم في الإنسانية. قال أبو العيناء: “خطبت امرأة، فاستقبحتني، فكتبت إليها: فإن تنفري من قبح وجهي فإني أريب أديب لا غبي ولا فدم. فأجابتني: ليس لديوان الرسائل أريدك!”.