رغم تشكك الكثيرين من منافسي مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري، من جدية قراره بالانسحاب من الجولة المقبلة للانتخابات العامة المقررة يوم العاشر من أكتوبر المقبل، إلا أن صدمتهم بعدوله عن هذا القرار كانت هائلة بعد أن كانوا تورطوا في كشف نواياهم وأوراقهم، وبعد أن وضعوا تصوراتهم، ليس فقط لخرائط التحالفات بين الكتل الانتخابية المتنافسة، ولكن لمستقبل مجمل العملية السياسية، بعد أن يتمكنوا من التفرد بالسيطرة على السلطة التشريعية، ومن ثم التفرد بالسيطرة على السلطة التنفيذية، بعد أن يتم التخلص نهائياً من «كابوس» رئيس الحكومة الحالي، مصطفى الكاظمي، المدعوم من زعيم التيار الصدري.

هؤلاء جميعاً باتوا مطالبين بمراجعة حساباتهم وتحالفاتهم، والاستعداد لخوض انتخابات ربما لن تكون نتائجها في أيديهم، سواء ما يتعلق بخطر عودة التيار الصدري لامتلاك الأغلبية داخل البرلمان، كما هو الحال في البرلمان الحالي الذي تتمتع فيه «كتلة سائرون» الصدرية بالأغلبية، أو بوجود فرصة قوية للتجديد للكاظمي، وهذا معناه دعم المسارات الجديدة التي أسست لها حكومة الكاظمي، سواء في إطار إدارة السياسة داخل العراق بإعلاء شأن الدولة والشرعية وتحجيم دور بعض ميليشيات «الحشد الشعبي» المتمردة على الشرعية بدعم من إيران، أو في إدارة علاقات العراق مع جواره الإقليمي، باندفاع محسوب نحو تعظيم علاقات وروابط العراق العربية، أو على مستوى علاقات العراق الدولية، وبالذات السعي لوضع نهاية لجعل العراق ساحة صراعات ممتدة بين الولايات المتحدة وإيران.

دعم هذه المسارات سيكون ميسراً في السنوات المقبلة بالنسبة إلى حكومة يترأسها الكاظمي في حالة التجديد له بعد حسم نتائج الانتخابات، واستئثار التيار الصدري بأغلبية مريحة مدعومة بتحالف مريح أيضاً داخل البرلمان.

وسبب توقع أن تكون هذه المسارات ميسرة أكثر من الفترة الماضية، أن كلاً من البيئة العربية والإقليمية والبيئة الدولية أضحت أكثر استعداداً لدعم هذه المسارات على النحو الذي كشفته مقررات «قمة جوار العراق»، التي أكدت أن الجميع باتوا على قناعة بأن الدور العراقي، عربياً وإقليمياً، أضحى مطلوباً، وليس مقبولاً فقط، وأن دفع العراق ودعمه داخلياً للإصلاح والبناء وإعادة التعمير شرط أساسي لعودة هذا الدور، وأن عملية إعادة البناء والتعمير الداخلي سوف تؤثر حتماً، وبقوة، في معادلة توازن القوى الداخلية الراهنة لمصلحة معادلة جديدة، تلعب فيها القوى الداعمة لوحدة العراق وتقدمه واستقلال قراره الوطني وتخليصه من كل أشكال التبعية، إقليمية كانت أم دولية، الدور الأساسي في هذه المعادلة.

مثل هذه الرؤية تكشف جدية تخوفات كل من أفزعتهم عودة مقتدى الصدر وعدوله عن قرار الانسحاب من العملية الانتخابية، لأن هذه العودة تهدد فرصاً كانت مواتية لهؤلاء بالسيطرة على السلطتين التشريعية والتنفيذية بعد التخلص من عبء وثقل التيار الصدري.

هؤلاء، وفي مقدمتهم نوري المالكي زعيم حزب «الدعوة الإسلامية» رئيس الحكومة الأسبق، وهادي العامري زعيم «تيار الفتح»، إضافة إلى «منظمة بدر» و«تيار الحكمة»، هؤلاء وجدوا، وإن بدرجات متفاوتة، أن الانتخابات المقبلة «فرصة متاحة» لفرض خريطة سياسية جديدة، بعدد أقل من المنافسين، بما يضمن التوصل إلى «اتفاقات سلسة» على توزيع السلطات.

والآن، وبعد أن تكشفت النوايا من المؤكد أن مقتدى الصدر، بعدوله عن قراره السابق بالانسحاب من العملية الانتخابية وانخراطه مجدداً في أتونها، سيضع في اعتباره أمرين؛ أولهما بلورة مشروع انتخابي يؤمّن أوسع قاعدة شعبية داعمة للتغيير ومحاربة الفساد مدعومة بتحالف انتخابي قادر على منافسة كل من خططوا لإبعاده عن المسرح السياسي في العراق، وثانيهما طرح خريطة جديدة لتوزيع المناصب السياسية، في مقدمتها التحكم في توزيع الرئاسات الثلاث، (رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ورئاسة البرلمان)، التي بدأت معاركها مبكراً في غيبة من التيار الصدري، تحكم يفاقم من المشاكل بين الحلفاء المعادين لمقتدى الصدر، وتصدير المشاكل لهم، وبالتحديد تعميق التنافس فيما بينهم، وإسقاط خرائط تحالفاتهم السياسية.

هل يستطيع مقتدى الصدر ذلك؟ هذا هو السؤال الصعب، لأن العراق، رغم كل ما حدث فيه من تحولات، مازال أسيراً لمشروع مشوّه للديمقراطية صاغه الأمريكيون عقب احتلالهم العراق، قائم على «المحاصصة الطائفية والعرقية» بين المكونات الوطنية الثلاثة التي حددوها للعراق: الشيعة والسنة والأكراد، لضمان بقائه ضعيفاً وهشاً ومقسماً.

والانحراف الديمقراطي الراهن الذي يكرّس المحاصصة الطائفية سيبقى العائق الأكبر أمام العراق المأمول الطامح إلى مشروع وطني حقيقي ينهي هذه المحاصصة، ويؤسس لنظام بديل قائم على مبدأ المواطنة المتساوية، وربما يكون المشروع الجديد لبناء «جيش عراقي غير طائفي مؤسس على المواطنة» في حال نجاحه، هو المؤشر الحقيقي لانعتاق العراق من معادلة «العراق الأمريكي»، إلى معادلة «العراق العربي».. فهذا هو التحدي الذي يواجه الثنائي: مقتدى الصدر ومصطفى الكاظمي، إذا ما نجح الصدر في الفوز بتياره وتحالفه الانتخابي الجديد، في الانتخابات المقبلة.