أخيرا، وبعد أسابيع طويلة من الانتظار والتوجس، طلع الدخان الأبيض من قصر قرطاج وتعرّف التونسيون في مراسم أداء اليمين، إلى أعضاء حكومتهم التي ترأسها الأكاديمية نجلاء بودن، بتكليف من الرئيس قيس سعيّد.
تسع أياد ناعمة قربتها الكاميرا بالتتالي فوق مصحف القرآن، تؤدي صاحباتها اليمين الدستورية، بالإضافة إلى رئيسة الحكومة من أصل 24 حقيبة وزارية بعضها سيادية، ذهبت إلى الجنس الناعم.
السيدات إذن، يشكلن أكثر من ثلث حكومة إنقاذ وطني تقودها امرأة، في سابقة تونسية وعربية، لا بل في مبادرة لم تشهدها دول ضاربة في عمق تاريخ المساواة بين الجنسين.
هل هذا ضرب من المزايدة والمضاربة في الحديث عن الريادة التونسية حول تحرر المرأة وكسب حقوقها كاملة غير منقوصة أم رسالة متعددة النسخ والاتجاهات يبعث بها قيس سعيد إلى الداخل والخارج.. أم أن الأمر لا يتعدى حدود “مقتضى الحال” في بلد تفوق فيه نسبة الإناث، الذكور من حيث التحصيل الجامعي والأكاديمي ـ وحتى التعداد السكاني ـ وبالتالي فإن من الطبيعي أن تجد النساء فرصتهن في التوظيف وتبوؤ المراكز الحكومية.
الحقيقة أن ما أقدم عليه الرئيس التونسي يُعد “أمرا تونسيا بحتا” أي أن الشيء من مأتاه لا يُستغرب توافقا مع السياق، ذلك أن لا شيء تفاجئ به تونس نفسها والعالم، وسط أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية غير مسبوقة، غير الاعتماد على بناتها وأبنائها من المخلصين.
إن الأمر يشبه الاعتماد على المخزون الاحتياطي في ساعات العوز والضيق، ذلك أن المرأة التي راهن عليها الزعيم الحبيب بورقيبة في فجر دولة الاستقلال، ومكنها من دخول المدارس والمصانع وجميع منشآت الدولة، لم تخيّب الرهان، وحضرت في الموعد كمنقذ حقيقي وليس كعنصر تأثيث وديكور.
وما الخطوة الجريئة في توسيع دور المرأة في العمل الحكومي من طرف الرئيس سعيد، إلا أمر بديهي ومنتظر في بلد مثل تونس، ذلك أن “رجالا كثيرين” فشلوا في إدارة شؤون البلاد، تورطوا في الفساد واقتسام الغنائم، ولم يبق إلا الاستنجاد بحرائر البلاد حين يجد الجد.
هذا علاوة على ما تتميز به طبيعة الأنثى من إحساس عال بالمسؤولية، وبعد عن الانزلاق في الفساد والمحسوبية. وزاد من هذه الميزة التي تسمح بها طبيعتها الأنثوية، بعدها عن الخوض في المهاترات الحزبية والمعارك السياسية، فهي أميل إلى العمل الجمعياتي والتطوعي، والنضال داخل المجتمع المدني أكثر من ممارسة السياسة في صيغتها الحزبية.
وإذا استثنينا زعيمة الحزب الدستوري الحر، عبير موسي، فإن لا حضور للمرأة في العمل الحزبي الذي ظل ذكوريا حتى لدى نساء حركة النهضة اللاتي يدافعن عن “ذكورة تونس” أكثر من ذكورها كما شاهدنا في المظاهرات التي قمن بها ضد تعديل قانون الميراث أيام حكم الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي.
ما ينبغي قوله هو أن العمل الحزبي قد تراجع، ويكاد يختفي في تونس والعالم، لذلك ظهرت طبقة سياسية من فئات عمرية شابة تمارس السياسة دون تحزّب.. وما هذه التشكيلة الوزارية التي تقودها نجلاء بودن، في تونس إلا انعكاس لهذا المناخ العام.
تقول وتتساءل بعض الأصوات المحسوبة على حركة النهضة المتهالكة في تونس: ماذا يعني تعيين سيدة “قليلة الخبرة” على رأس الحكومة في تونس؟ وينتهي بعضها إلى قراءة مفادها أن سعيد يريد أن يحكم منفردا من خلالها، ويسهل عليه ممارسة الاستبداد بالرأي أمام جمع من قليلات الخبرة في العمل السياسي.
أقل وأبسط ما نستنتجه من هذا الفهم هو أن أصحابه “ذكوريون” واستبداديون في تركيبتهم العقلية، إذ انطلقوا من قناعة لديهم تتمثل في أن الرجل يسيطر على عقل المرأة إن جعلها تتحمل مسؤولية وتتقلد منصبا تحت قيادته.
الأهم من ذلك كله أن الشارع التونسي استقبل هذه الحكومة بترحاب وصل حد الاحتفال، ولم يعلق أبسط رجل في الشارع حول الطبيعة المؤنثة للتركيبة الوزارية بل بالعكس، وهذا دليل على وعي غير مسبوق في العالم العربي.
يعلم كل من يقرأ التاريخ القديم والحديث لتونس أنه تاريخ دخلت في صناعته الأيادي الناعمة منذ تاريخ قرطاج التي أسستها أليسار، وحمل اسمها القصر الرئاسي الذي عرضت فيه نجلاء بودن تشكيلة حكومتها وأقسمت مع زميلاتها وزملائها على عدم الولاء إلا لتونس التي ذاقت الأمرين من الذين دانوا بالولاء لغيرها، وعلى رأسهم راشد الغنوشي وجماعته الذين أخرجوا من تحت قبة البرلمان صغارا وأذلاء بعد أن حنثوا بالعهد كما قال الرئيس قيس سعيد.
التعليقات