انتهت الانتخابات العراقية التي تجرى للمرة الخامسة منذ سنة 2003 الى نتائج ستطبع المرحلة السياسية، وربما الأمنية، القادمة في بلاد ما بين النهرين. فالعملية الانتخابية التي اعتبرت جميع البعثات الدولية المراقبة أنها كانت ناجحة، تميزت بأنها لم تشهد مخالفات كبيرة يمكن أن تؤثر في النتائج. كما أنها لم تشهد أعمالاً مخلة بالأمن يمكن التوقف عند تأثيرها في النتائج أو في الانتظام العام.
عملياً كانت العملية الانتخابية مقبولة من الناحية الإدارية، بحيث أمكن تسجيل نقطة إيجابية في سجل رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي الذي كان قد وعد بتنظيم انتخابات تشريعية مبكرة، تلبية لمطالب الشارع الذي انتفض في العامين الماضيين، فكان عند وعده بتنظيم انتخابات أفضل بأشواط من الانتخابات الماضية التي شهدت عمليات تزوير كبيرة، فضلاً عن استخدام السلاح للضغط على شرائح واسعة من الناخبين. أكثر من ذلك، وهنا النقطة التي يجدر التوقف عندها، فإن عدم ترشح رئيس الحكومة للانتخابات قدمه كشخصية مستقلة لم تحاول الاستفادة من موقعها الرسمي في انتخابات تشريعية يشرف على تنظيمها شخصياً. هذه سابقة في الحياة الانتخابية العراقية منذ دورة الانتخابات الأولى عام 2005.
إذاً، وفي وقت تعزز فيه رصيد الكاظمي سياسياً ومعنوياً بعد هذه الانتخابات، فإن عدداً من الكتل السياسية التي كانت تمتلك حضوراً وازناً في البرلمان العراقي تراجعت، لا بل سُحقت في مكان ما. هذه الكتل في معظمها موالية لإيران، وهي التي تتشكل على هامش "الحشد الشعبي" وفصائله "الولائية" التي تتبع عموماً بقرارها لـ"فيلق القدس" التابع لـ"الحرس الثوري الإيراني". على رأس هذه الكتل "ائتلاف الفتح" الذي أصيب بضربة كبيرة في الانتخابات. وهذه مسألة سيكون لها تأثيرها في المستقبل القريب على مستوى النقاش الواسع الذي يدور في العراق، حول مصير "الحشد الشعبي" والميليشيات التابعة له التي أدرجت إدارياً ومالياً في عداد القوات المسلحة الشرعية، فيما هي مستقلة تماماً وتتعامل مباشرة مع الراعي الإيراني. وآخر مظاهر هذه التبعية، مسارعة قائد "فيلق القدس" إسماعيل قاآني الى زيارة بغداد قبيل إعلان النتائج وعقده سلسلة اجتماعات مع قادة "الحشد الشعبي" والأحزاب التي تدين بالولاء لطهران.
هكذا جاءت النتائج في مصلحة ثلاث كتل رئيسية، يبدو أنها قد تشكل التحالف الحاكم المقبل: "التيار الصدري" بقيادة مقتدى الصدر، و"كتلة التقدم" السنية التي يرأسها رئيس البرلمان الحالي محمد الحلبوسي، و"الحزب الديموقراطي الكردستاني" بقيادة مسعود البارزاني، فيما لم يبق أمام الكتل الأخرى مثل "كتلة دولة القانون" بقيادة نوري المالكي الذي سجل نتيجة جيدة وحل ثالثاً في ترتيب عدد المقاعد، وعدد من الكتل الأخرى، إلا أن تتجمع في ما بينها في إطار ائتلاف في محاولة لجمع عدد أكبر من المقاعد يؤهلها للمطالبة بالمناصب الرئيسية الثلاثة. لكن هذه مهمة صعبة جداً، لا سيما أن تحالف "التيار الصدري" و"كتلة التقدم "و"الحزب الديموقراطي الكردستاني" يمكن أن يستقطب عدداً من الكتل الأصغر، إضافة الى مجموعة من المستقلين الذين نالوا نحو عشرين مقعداً، غير أنهم يمثلون نَفَساً جديداً في الحياة السياسية العراقية، ويمكن أن نشهد عدداً منهم في واجهة العمل الحكومي.
بهذا المعنى، ثمة مراقبون يرون أن الثلاثي الصدر - الحلبوسي – بارزاني سيكون واجهة المعادلة السياسية. لكن دونهم وتثبيت معادلة جديدة العديد من التحديات التي يصعب من الآن التنبؤ بقدرتهم على مواجهتها. فالانتخابات، وإن أعطتهم أرجحية، غير أنها لم تحسم موازين القوى في المسرح السياسي. أكثر من ذلك، فإن الانتخابات التي نجحت إدارياً وإجرائياً، فشلت في استقطاب الناخب العراقي عامة، فنسبة التصويت التي أعلنت بلغت رسمياً 41 في المئة ممن تسجلوا على لوائح الانتخاب، في وقت تحتسب النسبة عالمياً على قاعدة من يحق لهم الانتخاب. بهذا المعنى، فإن النسبة تتدنى الى نحو 34 في المئة، أي أن ثلثي العراقيين الذين يحق لهم الاقتراع (18 سنة وما فوق) قاطعوا الانتخابات، هذا في وقت يجري تشييد "المبنى" السياسي على أساس انتخابات اقترع فيها ثلث العراقيين. هذه نقطة قصور كبيرة تضعف مشروعية العملية، وقد تصبح خاصرة رخوة في المستقبل لأي حكومة تتشكل على هذا الأساس. من هنا دعوة بعض الأصوات الى أن تتشكل حكومة مستندة الى نتائج الانتخابات على أساس تشكيل مختلط من القوى السياسية وقوى المجتمع المدني والشباب المستقل.
في العراق اليوم رأي عام مستقل يمثل ثلثي العراقيين. هذه أكثرية صامتة، لكنها أكثرية صاخبة كامنة يمكن أن تنزل الى الشارع، في لحظة تتقاطع فيها عوامل معينة تدفع بها الى الاعتراض الصاخب.
قد تطول عملية اختيار رئيس الحكومة الجديد، وثمة من يرجح أن يكون مصطفى الكاظمي مرشح تسوية تتقاطع عنده عوامل عدة تصبّ في مصلحة بقائه، أهمها أنه نظم عملية انتخابية ناجحة مقارنة بسابقاتها، ثم، وهنا المهم، أنه يمتلك شبكة علاقات متينة عربية ودولية يندر أن يمتلكها مرشح آخر، بمن فيهم الأسماء التي يجري التداول بها من التيار الصدري. أما إذا تمكن خصوم الثلاثي المشار اليه آنفاً من تأمين عدد أصوات كاف لاختيار رئيس الحكومة المقبل، فإنهم حتماً لن يقدروا على طرح اسم يتمتع بشبكة علاقات عربية، إقليمية ودولية كمصطفى الكاظمي. إذاً نحن أمام أيام طويلة سيكون فيها "البازار" الحكومي سيد المشهد. وقد لا تخلو من تحديات أمنية في إطار معركة الأحجام، لا سيما أن ملف "الحشد الشعبي" صار على المحك مع انهيار شعبيته كما حصل. هنا سيكون نفوذ إيران على المحك.
التعليقات