شهدت بعض شوارع بيروت، أمس الخميس، حوادث أمنية دموية بين مكونين لبنانيين، ذكّرت اللبنانيين، وغير اللبنانيين، لا سيما مراقبي الوضع اللبناني، بماضي الحرب الأهلية التي شهدها لبنان بين 1975 و1990، ولم يفت الدبلوماسيين المعتمدين محلياً من الذين درسوا جيداً تاريخ لبنان الحديث، أن يتوقفوا عند ارتفاع حدة التوتر والتوتير المذهبي في البلاد.

للمرة الثانية في أقل من بضعة أشهر يحصل صدام بين "الثنائي الشيعي" الذي يقوده "حزب الله" وأحد المكوّنات اللبنانية. فبعد حوادث أمنية – عسكرية في منطقة خلدة على المدخل الجنوبي لبيروت بين عناصر من "حزب الله" ومواطنين من "عرب خلدة"، سقط فيها قتلى وجرحى، أتت التظاهرة التي دعا اليها "الثنائي الشيعي" المؤلف من "حركة أمل" و"حزب الله" للتوجه الى قصر العدل في منطقة العدلية ذات الغالبية المسيحية، طلباً لإقصاء المحقق العدلي القاضي طارق البيطار المولج ملف التحقيق في جريمة تفجير مرفأ بيروت، لتشعل نزاعاً ذا طبيعة أمنية، لم يعرف تماماً كيف بدأ، لكن المؤكد أن متظاهرين منتسبين الى"حركة أمل" و"حزب الله" منظمين في إطار شبه عسكري تسللوا الى الشوارع الداخلية للمنطقة المحيطة بقصر العدل، ما أدى الى صدام فوري مع شبان المحلة، وتطور الأمر الى إطلاق نار أدى الى سقوط ضحايا بين قتلى وجرحى من الطرفين. وللمرة الأولى يستمر اشتباك مسلح بالسلاح الخفيف والمتوسط بين أحياء سكنية في قلب بيروت ساعات عدة، ما أدى الى خلق معادلة أمنية داخلية بمعزل عن القوى العسكرية الرسمية التي بدا أن الحوادث تجاوزتها.

بالطبع، كان "حزب الله" قد رفع من منسوب التوتير على خلفية محاولته إقصاء القاضي بيطار مهما كلف الأمر، واستبدال قاض آخر مطواع به. فشلت المحاولة في مجلس الوزراء الذي انعقد، يوم الأربعاء، في جو من الصخب والتهديد المباشر الذي أطلقه أحد وزراء الحزب أمام رئيس الجمهورية ميشال عون الذي كان يترأس الجلسة، ورفض الانصياع لرغبة "حزب الله" بإقالة القاضي بيطار. لم يكن بالإمكان الاستجابة لمطلب "حزب الله" الذي سوّق له أمينه العام ثلاث مرات متتالية على شاشات التلفزة، مهاجماً القاضي بيطار مباشرة ومتهماً إياه بتسييس التحقيق، ما أعاد الى الذاكرة كل الحوادث التي واكبت تشكيل لجنة التحقيق الدولية في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ثم إنشاء المحكمة الخاصة بلبنان لمحاكمة المتهمين بعملية الاغتيال.

ما حدث البارحة في شوارع بيروت أعاد وضع "حزب الله" في دائرة تعريض العلاقات بين المكوّنات اللبنانية للخطر. فالاحتكام الى الشارع صار من عادات الحزب، وحملات التحريض الكبيرة التي سبقت حوادث البارحة، مثل التهديد بـ"حرب أهلية "، وبـ"انفجار البلد" عبر مختلف المنصات الإعلامية التي تأتمر به، فضلاً عن تحريك تظاهرة قيل إنها تظاهرة محامين ونقابيين ومثقفين، ليتبين أنها تشكلت في معظمها من شبان عادة ما يستخدمهم "الثنائي الشيعي" عصا غليظة خلال الصدامات في الشارع، كما كان يحصل إبان "ثورة تشرين" التي جرى وأدها بالقوة والترهيب.

الآن نحن أمام معادلة يبدو أنها بدأت تتظهر على قاعدة أن أي قوة طائفية البعد، ولو كانت مدججة بالسلاح وقادرة على مصادرة القرار الوطني اللبناني، ستواجه بتمرد أهلي مؤكد، حتى لو كانت الجهة المتمردة أقل شأناً. "حزب الله" قوة ساحقة بالوسائل والقدرات التي يملكها، لكن الخطوط الحمر الطائفية بدأت ترتسم أمامه، لا سيما بعدما واصل تحكمه بالقرار الوطني محتكماً الى القوة التي يملكها والى قدرته على الإيذاء المباشر. هذه المعادلة التي يبدو أنها في طور التشكل، لمسها المراقبون في حوادث البارحة، عندما بدا أنه إذا كان الطاقم السياسي اللبناني متواطئاً مع الحزب، أو مستسلماً أمامه، فإن الشوارع الأخرى لا يمكن إخضاعها الى ما لا نهاية، خصوصاً أن "حزب الله" يقدم نفسه من الناحية العلمية على أنه ذراع عسكرية – أمنية "ولائية" (للنظام في إيران)، مستخدماً الإطار المذهبي – الديني لترسيخ نفوذه بين أفراد الطائفة الشيعية في لبنان. وبالتالي فإن غلبة "حزب الله" وممارسته هذه الغلبة بالطريقة التي شهدها لبنان منذ غزوة بيروت في أيار (مايو) 2008، أدتا الى احتقان كبير بين المكونات اللبنانية الأخرى، مسيحية وسنية ودرزية، ترى أنها وضعت تحت وصاية قوة قاهرة، تصادر الشرعية اللبنانية.

هذا المعطى اللبناني الذي بدأ يتبلور خطر، إذ يمكن أن يدفع بالبلاد الى الانزلاق نحو مواجهات أهلية متكررة، خصوصاً أن توقيته يأتي بعد أيام على الانتخابات التشريعية العراقية، والتراجع الكبير للقوى والأحزاب الموالية لإيران، لا سيما القوى التي تمثل "الحشد الشعبي"، أي الميليشيا المسلحة التي انتزعت "شرعية" من الدولة وترفض اليوم أي مراجعة في وضعيتها، بعدما زال خطر "داعش" ولم يعد من داع للبقاء على السلاح من خارج الدولة. هذا هو فحوى كلام زعيم "التيار الصدري" مقتدى الصدر غداة فوز تياره بحصة كبيرة من المقاعد في البرلمان العراقي، عندما قال: "يجب عدم رفع السلاح خارج إطار الدولة مطلقاً... حتى من الذين يدعون المقاومة". جاء ذلك فيما رفضت الفصائل العراقية التابعة لإيران النتائج، معتبرة أنها تعرضت لمؤامرة حاكها رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي مع قوى سياسية متواطئة معه.

هنا يمكن التوقف عند النقطة التي تجمع الواقع اللبناني بالواقع العراقي، ألا وهي مسألة السلاح من خارج الشرعية. ففي لبنان سلاح من خارج الشرعية يرفع شعار "مقاومة إسرائيل"، في الوقت الذي انتفت حقيقة الحاجة الى مقاومة مسلحة بعد انسحاب إسرائيل من الأراضي اللبنانية سنة 2000. أضف الى ذلك أن السلاح استخدم في الداخل لتطويع المكوّنات الأخرى، فضلاً عن أنه (أي السلاح) متهم بجرائم اغتيال قادة سياسيين لبنانيين كبار، على رأسهم رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري. إنها إشكالية السلاح المتفلت التي تعود باستمرار في لبنان والعراق، وهو سلاح إيراني الهوى والإمرة. والتحدي الأكبر في العراق كما في لبنان، يتمثل بكيفية التخلص من السلاح ودفع القوى المسلحة الى العمل السياسي السلمي المحتكم الى القانون أولاً وآخراً. من هنا تبدو حوادث بيروت الدامية صبيحة يوم أمس بمثابة رجع صدى لأزمة السلاح والميليشيات القائمة على هامش الشرعية في لبنان كما في العراق.