تتقاطع الرؤى الاستراتيجية مع تكتيك المفاوضات والمحادثات والتهديدات والإملاءات الذي تتبناه القيادة الإيرانية في صقلها مكانتها الإقليمية وعلاقاتها الدولية، وسط مزيج من التوتّر وادّعاء الانتصار القاطع. جيرتها تتسابق مع المستقبل، وترسم استراتيجيات النمو الاقتصادي وتشجيع الاستثمار والسياحة والتغيير المتماسك في البيئة الداخلية، فيما تسعى للتخلّص من حروب تورّطت فيها، وتجري المباحثات الإقليمية على نسق المحادثات السعودية - الإيرانية.
عنفوان الجمهورية الإسلامية الإيرانية نووي وتوسّعي في آنٍ كأولوية عقائدية واستراتيجية وتكتيكية، تشكّل أساس الوجودية للنظام الحاكم في طهران. لذلك يغضب حكّام إيران عندما تأتي الانتخابات في العراق بغير ما كانت تشتهيه سفن "الحرس الثوري" الإيراني، فللعراق مكانة أساسية في المشروع الإيراني التوسّعي الإقليمي.
لذلك لن تسمح القيادات الإيرانية للبنان بأن يخرج عن قبضتها وعن سيطرة شريكها التنفيذي في لبنان، "حزب الله"، لأن لبنان أداة تكتيك رئيسية في الاستراتيجية الإيرانية نحو إسرائيل، في مراحلها التهادنية أو في محطاتها التصعيدية ولو لفظيّاً. فلقد سُحِبَت منها سوريا كجبهة إيرانية - إسرائيلية بقرار روسي، إضافة الى القرار الأميركي الأساسي. وهذا أزعج طهران كثيراً، ليس لأنها جديّة في مواجهة عسكرية مع إسرائيل، أساساً لن تكون مباشرة، إنما عبر وكلائها بالنيابة، بل لأن الاستثمارات العسكرية الضخمة لطهران و"حزب الله" في سوريا لم تتمخّض عن خيار "تفعيل" الجبهة السورية - الإسرائيلية لمصلحة الاستراتيجية الإيرانية وإنما عن تجييرها لمصلحة الاستراتيجية الروسية. فازدادت أهمية لبنان ومحوريته في المشروع الإيراني، وبات تدجينه وحرمانه من السيادة هدفاً استراتيجياً للجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهذا ما قرّرت الحكومات الأميركية والأوروبية والروسية والصينية والعربية عدم استيعابه، كلٌّ لغاية في نفس يعقوب، بتواطؤ من الزمرة اللبنانية الحاكمة، أو بجهلٍ قصير النظر لأقطاب الحكم الفاسد.
مصير لبنان في معادلة المفاوضات النووية والتجاذبات والمحادثات الإقليمية بات لربما أكثر صعوبة وخطورة من مصير اليمن، مثلاً، حيث لليمن الأولوية في صفحة التفاهمات السعودية - الإيرانية، في حال نجاحها. فما هي معالم الرؤية الاستراتيجية لكبار القوى الإقليمية، بدءاً بالسعودية والجمهورية الإسلامية؟ وما هي آفاق الإعمار والدمار في عواصم هذه الدول الإقليمية وفي عواصم ملاحقها، كبغداد ودمشق وبيروت الحزينة؟
في البدء، نظرة ضرورية الى الرؤية الاستراتيجية للجمهورية الإسلامية الإيرانية، كما نقلتها أوساط مطّلِعة على هذه التوجّهات التي صاغتها المؤسسة الإيرانية الحاكمة ما بعد الانتخابات الرئاسية، وما بعد سنوات العقوبات والعزل.
"إيران لإيران" عنوان يتصدّر زمن السعي الى الإحياء revival الذي يبتغيه حكام طهران، بحيث تكون إيران الجديدة دولة ذات قوّة عسكرية كبرى مدعومة بوسائل نفوذ محنّكة على مختلف المستويات. الأساس في هذه الرؤية هو تعزيز الهوية الإيرانية داخلياً وتطويرها خارجياً، كدولة مُحترمة ذات نفوذ بعيد من ضجيج الأزمات الإقليمية والدولية.
تصطدم هذه الرؤية بالسياسات الداخلية التي تواجه السلطة بها الشعب الإيراني، المنقسم بين غاضب مما آلت اليه ظروف معيشته ومكانته العالمية وهو يراقب تطلّعات الشعوب الأخرى بالذات في جيرته الخليجية المباشرة، حيث شعب السعودية والإمارات وقطر ينعم بخيرات بلاده ويتطوّر مع التغيير ويستثمر في مستقبله المنفتح على التكنولوجيا والحريات... وبين فئة من الشعب الإيراني تبتهج بامتلاك إيران القدرات النووية وتتباهى بتحدّيها للغرب كجزء من هويتها العقائدية. حكام إيران يحاولون الاستفادة من التوق لدى شطر من الشعب الإيراني الى إحياء القومية الفارسية، لكن هذا بهدف احتوائها كي لا تتحدّى عقائدية الثيوقراطية الحاكمة.
على صعيد السياسات الخارجية، تنظر المؤسسة الحاكمة في طهران الى مصالحها من زاوية ضمان انتماء كل من لبنان وسوريا والعراق - بهذا الترتيب - الى النظام البيئي أو المنظومة ecosystem السياسية الموالية لطهران. يريد حكّام طهران حشد الأحزاب، والقوى السياسية، والمجموعات، والنظام القضائي والقانوني، ووحدات القوة الضرورية، والإعلام، والوجود داخل السلطة الحكومية لضمان الولاء في هذه الصفوف للمصالح الإيرانية القوميّة والأمنيّة.
هذه المنظومة يجب، من وجهة نظر الاستراتيجية الإيرانية، أن تؤمِّن الاستقرار. وترجمة الاستقرار بمفهومه الإيراني هي أن تكون هذه المنظومة الموالية للمصالح الإيرانية القوميّة والأمنيّة جاهزة للوقوف في وجه الضغوط الخارجية، وقادرة على التغلّب على العراقيل المحليّة الداخلية، بما يضمن التدجين الوطني المحلّي على المدى البعيد خدمةً لـ"الاستقرار" بمفهومه الإيراني.
تشييد هذا الجهاز أو المنظومة بحسب الرؤية الاستراتيجية هو مسؤوليّة إيران بكل ما لديها من قنوات ووسائل، بصبر وبلا عجلة، بترشيد هنا وبتهديد هناك، وبإصرار وتمكين لمفاعيلها ومفاتيحها المحليّة. فلقد عقدت القيادة الإيرانية العزم على عدم الاستغناء تحت أي ظرف كان عن ثلاثية مشروعها الإقليمي: لبنان، سوريا والعراق. نكسةٌ هنا، نصرٌ هناك، إن القرار الاستراتيجي هو "استقرار" لبنان في كنف الجمهورية الإسلامية الإيرانية كأولوية، شأنه شأن العراق وسوريا. ولكلٍّ من هذه الدول استراتيجية لدى "الحرس الثوري" في طهران.
إسرائيل ضرورية في هذه الاستراتيجية، ورأي القيادة الإيرانية هو أن إسرائيل يجب أن تبقى في خانة العدو لحشد العاطفة العربية، ولتبرير وجود إيران في دول الجبهة مع إسرائيل. طهران تريد أيضاً أن تعمل مع الدول الأوروبية لعزل إسرائيل جزئيّاً بسبب مواقفها من المسألة الفلسطينية. فالعلاقات الإيرانية - الأوروبية تزداد دفئاً وعمقاً، وطهران تعتقد أن في وسعها التأثير في السياسات الأوروبية نحو إسرائيل عبر وسائل الإقناع النووية الإيرانية: عصا الإخضاع الأوروبي السحرية.
الحرب السيبرانية التي تشنّها إسرائيل على إيران قد لا تخرج الى العلن، بمعنى أن تقرّ إيران أو إسرائيل بها، لأن الإقرار يترتّب عليه الاستمرار الى مرحلة المواجهة العسكرية المباشرة، وهذا ما لا تريده إيران ولا تريده إسرائيل. كلتاهما تفضّل حروبه بالنيابة عبر الجغرافيا العربية.
الأولوية الثانية في السياسة الخارجية الاستراتيجية الإيرانية، ما بعد لبنان وسوريا والعراق، هي منطقة الخليج، والمهمّة الأولى هي حماية الوجود الإيراني وضمان قدرة إيران على السيطرة على الممرات المهمّة استراتيجياً. رؤية رجال طهران تقوم على السعي الى التفاهم مع دول الخليج على "الاتكال المتبادل" mutual dependence عوضاً عن المواجهات المفتوحة، وعلى خلق أمر واقع يستبعد اتخاذ أيّ خطوات ضد إيران. طهران ما زالت تسعى وراء نظام أمني جديد في الخليج، وهي تدرك صعوبة إنشائه، لا سيّما في ظل الشروط الإيرانية. لذلك فإن رجال طهران يفكّرون الآن باستراتيجية البدء بعملية process تؤدي الى تقوية مواقعهم ومواقفهم.
فهم يفهمون جيّداً أن إيران ليست لاعباً عالمياً في هذا المنعطف، لكنهم يريدونها قوّة تأثير عالمية. في هذه الأثناء، يعتقد حكّام إيران أن الاختراق الإقليمي أهم في هذا المنعطف. وعليه، من الضروري بعث صورة إيجابية عن إيران جديدة تتبنّى "استراتيجية السيطرة الناعمة" بعيداً من الضجيج، فيما يتم بناء ميكانيزم متكامل للتأثير. وهذا يتطلّب، في رأيهم، توسيع حلقة الأصدقاء لتشمل المعتدلين وليس فقط المتشددين مثل روسيا والصين، فهؤلاء المعتدلون هم الذين سيساعدون في دفع الاستراتيجية الإيرانية الى الأمام.
المفيد في الرؤية الإيرانية الجديدة هو أن هناك استراتيجية لا تضجّ بالتهديد الفاضح، لكن السياسة الإيرانية نحو دول لبنان والعراق لا تعتريها "النعومة" أبداً. إنها لا تقلّ عن ارتهانٍ للدولتين وتكريسهما ذخيرة في الحزام الأمني الإيراني.
لعلّ الانفتاح على صفحة جديدة مع السعودية يؤدّي الى تفاهمات حول حرب اليمن التي يغذيّها "الحرس الثوري" الإيراني و"حزب الله" اللبناني الذي يعتبر نفسه خرطوشة في بندقية إيران. المحادثات السعودية - الإيرانية معظمها عسكرية وهي تصبّ في الأولويات الأمنية. إنها في غاية الأهمية ببعدها الخليجي وبعدها اليمني، ولربما لاحقاً ببعدها اللبناني لو توقّف أمثال وزير الإعلام جورج قرداحي عن إعلان سذاجة فكره السياسي وتحلّى بالوطنية اللبنانية وقدّم استقالته، أقلّه احتراماً للجالية اللبنانية المكافِحَة في منطقة الخليج. فكلامه الداعم لحوثيي اليمن الذين يهدّدون الأمن القومي السعودي كشف عن جهلٍ ليس فقط لماضي الحرب اليمنية، بل أيضاً لما يتم بحثه في المحادثات الإقليمية والدولية. فليته يستتر ويستقيل كي لا تنتهي مسيرته المهنية كسلعة استهلاك غير وطنية.
المساومات الإقليمية والدولية في عزِّها هذه الأيام من فيينا، حيث المفاوضات حول إحياء الصفقة النووية مع إيران JCPOA الى المباحثات الجانبية بين دول المنطقة: ليونةً هنا، تشدّداً هناك. إن الفرز القائم مجهول المصير الى أن ينتهي في قرارات.
إن ما يحدث في دول الخليج العربية يفيد بأن قياداتها قرّرت ألا تتوقف في عجلة الزمن السياسية والصدامية. مشاريع التطوير النوعي للعاصمة السعودية، الرياض، التي كشف عنها مؤتمر "مبادرة الاستثمار المستقبلي" FII، والمسيرة النهضوية لأبو ظبي عاصمة دولة الإمارات ليست سوى مثالين على الأولوية الاستراتيجية لهاتين الدولتين اللتين اعتمدتا سياسة النمو الاقتصادي والتقني والإنساني والسياحي والنهضوي، وضخ الثقة والسعادة في المواطنين. وهذا حقاً إنجاز.
في المقابل، إن بؤس بيروت وبغداد ودمشق هو شهادة على فشل العقيدة الإيرانية التي أوقفت إيران في عجلة الزمن، بل أعادتها أربعين سنة الى الوراء. رجال طهران لا يكترثون بسعادة الشعب الإيراني في مدن إيران الرائعة، ولن يكترثوا بحضارة بغداد وبيروت ودمشق وجمالها وتاريخها وسعادتها، ولا حتى طهران. فليت الاستراتيجية التي يصقلونها تدفعهم الى النظر في تطوّر جيرتهم والتحاقها بالعالم العصري. فالسلاح النووي لن يعيد إعمار إيران العريقة، والدمار وحده ليس سياسة قابلة للاستدامة.
التعليقات