عادة ما تكون احتفالات الأمم والشعوب بأعيادها الوطنية فرصة لتقييم الأداء ومراجعة مسيرة العمل في محاولة لاستخلاص الدروس والعبر التي تفيدها في حياتها القادمة. لكنني أعتقد أن الأمر أضحى، منذ سنوات طويلة مضت مختلفاً جذرياً بالنسبة لدولة الإمارات العربية المتحدة التي لا تنظر للماضي لتحسين الحاضر، وإن كانت لا تتجاهل ذلك، لكنها تنظر إلى المستقبل للنهوض بالحاضر ليكون مؤهلاً أن يصبح ركيزة لمستقبل جرى استشرافه والتخطيط له بعلمية واحترافية فريدة.

هنا بالتحديد تحضرني ثلاث مقولات وثلاثة مشاهد لها دلالاتها لتأكيد هذا الاستخلاص المهم:

* المقولة الأولى لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس دولة الإمارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي في زيارته لمعرض دبي للطيران في دورته الجديدة (14- 18 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري) حيث قال تعليقاً على ما رآه وما يعرفه من نجاح مبهر لهذا المعرض وما يمثله بالنسبة لمسيرة التقدم التي تخوضها الإمارات على مدى خمسين عاماً من عمرها «الإمارات تسابق الزمن وتسعى دائماً إلى منافسة الأوائل». مسابقة الزمن تعني الاستثمار المكثف في المستقبل لجذب الحاضر نحو آفاق جديدة ومتجددة، ومنافسة الأوائل تجيء من إدراك جاد لما يقوم به الآخرون في الغرب وفي الشرق معاً، فكل هؤلاء يخوضون أيضاً المنافسة على المستقبل، ولن يكون للإمارات مكانتها التي تأملها إن لم تكن تتقدم بخطى تسابق الآخرين وتنافسهم، لأن المقارنة هنا ليست من موقع الثبات؛ بل من موقع الحركة، بل والحركة شديدة السرعة بقفزات تنافس كل منها الأخرى.

* المقولة الثانية لصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة التي وصف فيها سموه معرض دبي للطيران بأنه «منصة عالمية حيوية». هذه ليست مجرد شهادة ولكنها تأكيد للمعنى ذاته الذي يشغل الإمارات في سعيها لجعل أدائها في كافة المجالات «عالمياً وحيوياً»، أي على مستوى الجودة العالمية في أرقى صورها، وأيضاً حيوياً بأنه ليس تقدماً عشوائياً بل هو تقدم له أهمية بالنسبة لحياة الشعوب ورقيها وتقدمها.

* أما المقولة الثالثة فهي لسارة الأميرى وزيرة دولة للتكنولوجيا المتقدمة رئيس مجلس إدارة وكالة الإمارات للفضاء تحدثت فيها عن «رؤية دولة الإمارات لخلق قطاع فضائي وطني تنافسي ومستدام يحقق النمو المستقبلي، ويحقق مسيرة خمسين عاماً قادمة من حياة دولة الإمارات».

وعندما تتحدث وزيرة الدولة للتكنولوجيا المتقدمة فهذا معناه أن المستقبل هو الذي يتحدث، وعندما يكون مجال الحديث عن تكنولوجيا الفضاء، فهذا معناه أن الإمارات دخلت السباق العالمي لصنع المستقبل، منذ أن خصصت وزارة للتكنولوجيا المتقدمة، ومنذ أن انضمت إلى قائمة الدول المستكشفة للفضاء. في تلك اللحظة بدأت رؤية الإمارات لصنع المستقبل رؤية احترافية بكل المعاني.

أما المشاهد التي أعنيها فهي تأكيدات حية على أن الأقوال مقترنة دائماً بالأفعال، ما يعني أن صنع المستقبل كعملية على النحو الذي تخوضه دولة الإمارات ليس مجرد رغبة ولكنه أضحى إرادة وطنية يخوضها الشعب والقيادة في دولة الإمارات.

* المشهد الأول في مجال الاقتصاد يجسده الآن معرض «إكسبو 2020» الذي يمتد على مساحة تبلغ ضعف مساحة إمارة «موناكو» ضمن مشروع ضخم بلغت تكلفته نحو 7 مليارات دولار ويعتمد على أحدث التقنيات ومن بينها شبكة «الجيل الخامس»، وسيتحول موقع المعرض إلى مدينة جديدة دائمة ومركز لصناعة التكنولوجيا، ضمن رهان تخوضه الإمارات من أجل امتلاك التفوق في الذكاء الاصطناعي وتوظيفه في مجالات وقطاعات التكنولوجيا والسياحة والخدمات المختلفة.

* المشهد الثاني سياسي جسدته الزيارة الجسورة لسمو الشيخ عبد الله بن زايد وزير الخارجية والتعاون الدولي للعاصمة السورية دمشق ولقائه بالرئيس السوري بشار الأسد في وقت مازالت فيه مواقف بعض الدول العربية وغير العربية متعثرة في الإجابة على سؤال العلاقة مع سوريا. أجابت الإمارات عن السؤال لتؤكد أنها تستثمر في المستقبل ليس فقط على مستوى الدولة ولكن على المستوى العربي، وعياً بأن العودة السورية إلى جامعة الدول العربية والدخول العربي إلى سوريا أضحى ضرورة لتصحيح مسار العمل العربي المشترك وإنقاذه من عثراته وبدء مرحلة جديدة أكثر وعياً بالمخاطر والتحديات وأكثر تسامحاً في تدعيم التعاون العربي المشترك، لأن هذا هو المستقبل.

* أما المشهد الثالث فهو ثقافي يمس الهوية الحضارية للدولة وللأمة كما يمس الثقافة والهوية الوطنية ومنظومة القيم. ففضلاً عن الصروح العلمية الهائلة التي باتت نجوماً ساطعة في سماء الإمارات من جامعات ومعاهد علمية وتكنولوجية ومراكز بحثية متنوعة، وفضلاً عن الدعم الذي تقدمه دولة الإمارات لمؤسسات الثقافة والتعليم في كافة أنحاء عالمنا العربي بل والعالم أيضاً قامت الإمارات بتوفير «رعاية جسورة» لمشروع ثقافي عربي رائد له علاقة مباشرة بالهوية الحضارية للأمة، وعياً منها بأن العلاقات بين الدول تتحول من جدل الأيديولوجيا، إلى جدل الحضارات هو مشروع «المعجم التاريخي للغة العربية».

ففي حفل افتتاح الدورة الأربعين لمعرض الشارقة الدولي للكتاب أعلن صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمى حاكم الشارقة عضو المجلس الأعلى صدور الأجزاء الخمسة الأولى من المعجم التاريخي للغة العربية الذي يؤرخ للمرة الأولى لمفردات لغة الضاد وتحولات استخدامها عبر ال 17 قرناً الماضية.

مشاهد ثلاثة تتنوع بين الاقتصاد والسياسة والثقافة تؤكد مجتمعة أن صنع الغد لا يكون بالقفز فوق الواقع ولكن يصنع هذا الواقع الذي يكون في مقدوره صنع المستقبل، وهذا ما حققته الإمارات على مدى خمسين عاماً مضت من عمرها لتؤسس لخمسين عاماً قادمة مفعمة بالتقدم والازدهار.