أصبح كل من التضخم وسياسات البنوك المركزية مستقبلاً حديث الجميع، ومؤشرات التضخم تحقق أرقاماً تاريخية لم تحدث منذ عقود، بلغ التضخم في الولايات المتحدة حالياً 6.2 % ومنطقة اليورو نحو 4.9 %، والآراء مختلفة، فهل من الممكن أن تنخفض الأسعار التي سببت هذا التضخم في العام المقبل أم أن الموضوع أكثر تعقيداً؟ ورغم أن التضخم قد مس قطاعات عديدة، مثل: القطاع اللوجستي وأسعار المساكن والأغذية والطاقة والمواد الخام عالمياً، لكن الكثير يضع اللوم على التحفيز الكمي أولاً، وثانياً تأثر الشحن وسلال الإمدادات، وثالثاً عدم عودة القوة العاملة بكامل عددها، وفي حال عودة هذه العوامل إلى حجمها الطبيعي يمكن أن ينحسر التضخم.

لكن لهذه مسببات؛ ونبدأ بالتحفيز الكمي، فتاريخياً من العام 2009 حتى العام 2015 الذي صاحبه تحفيز كمي ضخم تسبب بارتفاع حجم أصول الفدرالي الأميركي أكثر من خمس مرات فإن التضخم في المقابل لم يتجاوز 2 % كمتوسط خلال تلك السنوات، وهذا ما يضع حدوداً وتساؤلاً حول حدود تأثر التحفيز الكمي على التضخم، ثانياً صناعة الشحن بحسب بيانات (Freightwaves) فإنه ينعكس بلا شك على 40 % من الاقتصاد العالمي، وأن أسعار الحاويات التي تضاعفت عشر مرات يمكن أن تنخفض تدريجياً، لكن يوجد سبب آخر أكثر أهمية وارتباطاً بانخفاض إمكانات العرض التي سببت التضخم وهو انخفاض الاستثمارات التي في أغلب القطاعات المتضخمة.

في قطاع النقل البري شهد انخفاضاً كبيراً من الاستثمارات، لدرجة أن أكبر عشر شركات لا تشكل 12 % من القطاع، وأصبح 80 % من عدد الشحنات ملكاً فردياً، ما جعل القطاع أكثر هشاشة وعرضة للمؤثرات الاقتصادية، وأيضاً ارتفاع أسعار المساكن في الولايات المتحدة خلال النصف الأول بنسبة 21 % حسب (NAR) أنها كانت تعاني نقص استثمارات بما يعادل 5.5 ملايين وحدة سكنية في العقد الأخير (تقديرات RCY)، قطاع الطاقة أيضاً تأثر بانخفاض الاستثمارات، مثلاً: قطاع النفط والغاز انخفضت استثماراتهم الرأسمالية - قبل انتشار الوباء العام الماضي - بنسبة 17 % قياساً بما كانت عليه منذ عشر سنوات حسب بيانات وكالة الطاقة، وهناك استثمارات لم تتطور (نوعياً) مثل الصناعة الزراعية التي أصبحت حساسة لأي متغيرات مناخية كزراعة القهوة التي تأثرت بالجفاف وانعكست بارتفاع الأسعار إلى الضعف.

لا شك أن انخفاض الاستثمارات كان متأثراً بالسياسات المناخية التي انعكست على ارتفاع أسعار الوقود الأحفوري واللحوم، لكن لم تكن الكثير من الاستثمارات تدرك طبيعة التطور التقني على الأجهزة ارتفاع ذكائها أيضاً، اليوم أصبحت الرقائق تشكل 45 % من تكلفة السيارة قياساً بـ20 % منذ عقدين، ونتج عن ذلك نقص في العرض وأصبح حجم السيارات المباعة ضعف المخزون لأول مرة منذ ثلاثين عاماً، بالإضافة لنقص في بعض الأجهزة مثل الهواتف الذكية.

والسبب الآخر في الأهمية هو الإنسان الذي ترصده مراكز الإحصاء كقيمة كمية، وهذا يعقد فهم التحديات في سوق العمل، ورغم أن نسبة العاطلين حالياً 4.2 % بدأت تقترب مما كانت عليه قبل الأزمة 3.5 % إلا أن عدد المأجورين لا يزال أقل بأربعة ملايين، ومعدلات ارتفاع الأجور تتجاوز المتوسطات التاريخية بسبب ندرة بعض التخصصات.

كل هذه التحديات، التي أغلبها نقص المعروض، تجعل قدرة البنوك المركزية إلى حد ما محدودة في كبح التضخم، وتستدعي الحذر تجاه سياساتها المستقبلية وانعكاساتها على أسواق وأسعار الأصول.

عموماً التضخم في العادة مؤشر لنهاية دورة اقتصادية ولكن هذا الشكل من التضخم الناتج عن نقص المعروض مؤشر لدورة استثمارات طويلة.