بكثير من الإيجاز أكتب عن بعض ما استوقفني من إصدارات المشهد السياسي الكويتي منذ مبادرة سمو الأمير بالعفو وعودة أبناء الكويت من تركيا، وما رافقها من بيانات ومهرجانات، ولعل من المفيد استحضار بعض الملامح الجوهرية من هذا السجل المحشو بالمتاعب والابتهاجات..
أولاً - لا بد أن تتوافق المواقف مع الوعي برساخة العقد السياسي والاجتماعي التاريخي بين نظام الحكم وأبناء الوطن، بمختلف التوجهات وتعدد الملل والاجتهادات، فلم يضعف العهد ولم يتآكل مع المواجهات والأزمات، وتصدى للغزو وظل يرتوي بشكل متواصل بثقة تتميز بالمودة والألفة وتبادلية التفاهم وصلابة تهزم قسوة التحديات التي شهدتها الكويت، ويبقى هذا العقد وفياً مصارعاً لتقلبات الزمن.
ثانياً - هذه الوحدة الوطنية تحمل مؤشرات الولاء الوطني للحقيقة الكويتية، أرضاً وتراثاً وكياناً وتاريخاً، يشعلها اعتزاز بانتصار الشعب على خشونة الأرض وفقرها، بفضل إبداعات الشعب وجرأته في التفوق على ندرة مصادر المعيشة باقتحام البحر وتطويع أمواجه ومصاعبه، وصولاً إلى أفريقيا وآسيا ومن ثم مرحلة التفاهم والتوافق مع فصل الثروة النفطية، وتشييد وطن جديد مستقل، محصن بوحدة داخلية غيورة.
ثالثاً - نتذكر عهد الدستور ومبادئه والانتقال إلى الشراكة في مسؤولية الحكم، عبر البرلمان المنتخب من إرادة شعبية حرة، بلا ملاحقات ومن دون تدخلات تمس هذه الإرادة الحرة.
رابعاً - الإبحار في فصل الممارسة الديموقراطية بآليات توافق بين سلطة تشريعية وسلطة تنفيذية، كل ذلك برعاية الشرعية التاريخية ممثلة في أسرة الحكم منذ البداية، فيها بعض المتاعب، نظراً لحداثة التجربة، وفيها اجتهادات تولد منها سوء فهم، لكن كل ذلك ظل في إطار الحوار والتواصل.
خامساً - استوعبت الكويت وتعايش مجتمعها مع التباينات في الآراء والمواقف السياسية منذ ولادتها، لا سيما حول الأولويات في التطوير السياسي والاقتصادي واستوعب مجتمع الكويت صخب الأصوات وحدة نبرتها بكل ثقة في صلابة الأعمدة التي تقف عليها الكويت، وقد برزت متانة هذه الأعمدة في فصل الغزو البائس، كانت تجربة هضمها الشعب الكويتي بإيمانه بحتمية التحرير.
هذه البيئة المسالمة أنبتت الهيام الوطني الجماعي، حاملاً الاحترام والتقدير للمؤسسين، صناع الكويت الذين خلقوا كياناً ثميناً ملك قلوب وولاء المواطنين بمختلف مشاعرهم وأعراقهم، وزرع إعجاب المتابعين من عرب وغيرهم، واستحق الثناء لنظافته في التعامل معهم وجودة الاستقبال في قدومهم من دون مضايقات.
سادساً - لا بد من حرص النواب وبمزيد من الوعي لمعرفة توجهات الرأي العام الكويتي ورصد مواقفه والتعرف على حقيقة مزاجه، فمن يسعَ إلى الاقتراب من طموحات الشعب، عليه التعرف على أولويات الشعب والدنو منها، والتناغم مع موجاتها، وأقدر بأن بعض الخطب التي سمعناها من العائدين بفضل مبادرة العفو لا تتناسب مع موجة التفاؤل والأفراح التي صدرت من أبناء الشعب، كان بعضها طروحات لا تتفق مع أجواء هذه الأفراح، ومن يسمعها أو يشاهدها من أشقائنا في الخليج أو من الدول العربية الأخرى قد يستغرب عن مبررات النبرة الحادة في مناخ كان يتوقع أن يشوبه التقدير والابتهاج.
سابعاً - هناك فرق بين وجهات نظر يطرحها الكتاب والنواب والسياسيون وجميعهم يرددونها كأمنيات، ومواقف حادة يتبناها بعض النواب ويعملون على تحويلها من تمنيات إلى حقائق مع علمهم بأنها لن تتحقق وأنها من اختصاصات قيادات عليا، لها إلمام بالوضع الكويتي العام وتتحرك ضمن لوائح الشرعية الدستورية والتاريخية، فاختيار رئيس مجلس الأمة وليد خيار الأغلبية البرلمانية، ويتم منسجماً مع اللوائح التي حددها الدستور، وتأخذ حيويتها من هذه الشرعية، وتستمر فعاليتها طوال الفترة الزمنية التي حددها الدستور، وعلى من لا يهضم الرئاسة أن يتحلى بالصبر إلى موعدها القادم.
ثامناً - لم يتجاهل الدستور مسار اختيار رئيس الوزراء، فقد نص الدستور على أن منبع شرعيته يأتي من اختيار صاحب السمو وحده، بعد إجراء مشاورات مع الشخصيات الكويتية التي تولت الرئاسة سابقاً، وتولدت هذه المادة من حرص المؤسسين على تأمين الاستقرار والاستمرارية وإدامة الاستكانة، والتصميم على تواصل مجرى الشرعية التاريخية التي تلتف حولها جميع الطوائف والتوجهات، واحتراماً للوضع الدستوري القائم يجب الابتعاد عن الخلط في ملف الخيارات، والالتزام بالخطوط الفاصلة التي تحدد الصلاحيات.
تاسعاً - أخطر ما يؤذي الكويت ويشوش على سمعتها ما يأتي من الإسراف في المطالب، خصوصاً تلك التي تحركها الأحلام وغريزة التمنيات، والتي تتولد من صيغة خيال خارج الدستور ويتكرر طرحها في مواقع عدة، فتتحول الجدية التي تشغل الفضاء الكويتي السياسي إلى سباق نحو وهج الأحلام.
عاشراً - تعب الرأي العام الكويتي من أثقال خيبات في أمله في مناخ فيه قرارات جوهرية اقتصادياً واجتماعياً وإدارياً، خصوصاً في ملاحقته لما يتحقق في المملكة العربية السعودية وبقية دول المجلس، ومع التشكيل الوزاري الجديد تتصاعد التوقعات بالجديد، فلا تتحمل الكويت إضافات في حجم الخيبة التي تعايشت معها خلال هذه السنوات.
كتاب السدرة وبرجس حمود البرجس
أصدرت الآنسة مها برجس حمود البرجس كتابها «السدرة»، يحمل فصولاً مهمة عن حياة والدها المغفور له برجس حمود البرجس، الذي كان وكيلاً لوزارة الصحة، فتحول منها إلى أول رئيس لمجلس إدارة كونا، وكالة الأنباء الكويتية، وانطلق بها في الفضاء العربي والعالمي من دون قيود، فينشر ما يريد اعتماداً على ثقة القيادة به، وتقديراً منها للياقته في العمل، وتقديراً لإحساسه بالمسؤولية.
قرأت الكتاب الذي يغطي فصلين، فصل الانطلاق وفصل الغزو، في الأول كان برجس حالماً مفتوناً بالحرية، يلاحقها في مخاطباته، حاملاً همومها، وتحصن بغريزة المواجهة فيجادل المستبد الدموي صدام حسين باتهامه بحبه للإعلام وشغفه بالدعاية، كل ذلك أمام عدد من الجمهور وسط استغرابهم بموقف غير عادي لم يتذوقه صدام حسين.
ويتكرر هذا النهج مع قيادات أخرى، منها الرئيس حسني مبارك الذي لم يستذوق جرأة السؤال.
تبنى قضية فلسطين بكل أثقالها وأشواكها، مؤمناً بعدالتها، ورافضاً الظلم الذي كان من نصيبها، فغاص في عمق التعاضد مع قيادتها.
كان المرحوم برجس وطنياً كويتياً بموجات عروبية قومية، حالماً بعالم عربي أعمدته الحرية والديموقراطية وسيادة القانون، وفاضت غريزته القومية مع ترؤسه اتحاد وكالات الأنباء العربية لمدة عشر سنوات، فوجد فيه المجال الواسع لإبراز مأموريته القومية في وحدة مواقف وجسارة في الطرح والتزام بالقضية.
كانت الوكالة والاتحاد ميداناً فسيحاً لصرخته ضد الظلم ولنزعته نحو العدالة، كان يقود بارتياح ويتكلم بثقة وينتظر بأمل، ولم يسلم من الأذى، فقد فاجأه الغزو حين كان مع العائلة في شمال بريطانيا، وخانته المبادئ التي آمن بها، فتحول إلى إنسان آخر.
واستكملت مأموريته القومية مع ترؤسه اتحاد وكالات الأنباء العربية لمدة عشر سنوات، فوجد الميدان واسعاً لتدوين صرخته حول الديموقراطية في فضائه.
تحولت «كونا» ورئيسها برجس مع الغزو إلى كويتي عروبي مجروح، فاندفع بتجديد الوكالة التي سرقها الغزو وذلك ليسمع صوتها من لندن، حيث نجح في ضم أعداد من الكويتيين، وشيد للوكالة قنوات مع كويتيي الداخل ورسخ التعاون مع الوكالات العربية الأخرى، وتحول لعبء المقاومة الإخبارية يفند الأكاذيب ويعري التشويهات ويكشف الحقائق من دون تجميلات.
كنت أزور ديوانه بعد التحرير، لم يتخل عن همومه القومية وزادت اندفاعاته للحرية، مردداً بأن الغزو من صناعة الاستبدادية القائمة على الدموية.
كان متقاعداً مهموماً بشؤون الوطن والأمة، ومن يقرأ الكتاب يتعرف على هوية الكوماندوس برجس، وعلى وفائه للمأمورية التي آمن بها وعلى غرامه المتدفق بالحرية.
رحمه الله، نتواجد في ديوانه السخي كل يوم سبت، وشكراً للآنسة مها البرجس ابنة العطاء والوفاء.
التعليقات