ما لا يمكن قياسه لا يمكن إدارته، لعل هذه العبارة تعد من أشهر العبارات في عالم الإدارة عموما وإدارة الأعمال خصوصا، وهذا المدخل الذي من خلاله تم تبرير تطوير مؤشرات لقياس تحقق الأهداف ضمن التخطيط الاستراتيجي، ذلك أن المنشآت التي تسير دون قياس لمدى تحقق أهدافها، فإنها تسير في ما يشبه الضباب، فهناك مسارات ترى وهي قريبة، لكن تظل المسافة حتى محطة الوصول أمرا غير واضح، فلا نعرف بدقة هل أصبحنا قريبين من تحقيق أهدف أم لا يزال أمامنا كثير، هنا قد يجادل البعض بأن الهدف معلوم وإذا تم تحديده فسنعرف تماما متى نصل إليه، فإذا كنت في طريق به ضباب وأنت فعلا على الطريق فإن وصولك للمحطة التي تريدها مضمون ولو طالت المسافة بسبب الضباب، هذا صحيح نوعا ما، لكن القرار (أي قرار) هو في جوهره قرار بالتضحية بالموارد المتاحة، وهذا هو عين المشكلة، فإننا دوما نضحي بمواردنا الحالية ومن بينها القوة البدنية، من أجل الفوز بموارد أكبر في المستقبل وتعظيم قدرتنا على الاستهلاك، لهذا فإننا إذا لم نعرف بشكل دقيق كم علينا التضحية به من مواردنا الحالية فقد ننفق كثيرا منها في سبيل الوصول إلى شيء أقل، وبالمثال فإنك إذا لم تعرف المسافة بدقة نحو محطة الوصول، فإنك قد تنفق كل الوقود الذي معك قبل أن تصل فعلا للمحطة، وهذا هو الخطر، لذلك يجب عليك في كل مرة أن تعرف كم بقي نحو تحقيق الهدف، وتعدل قراراتك في تخصيص الموارد، هنا تتضح بشكل جلي أهمية قياس الأهداف ومدى القرب من تحققها على مسار تنفيذ الخطة الاستراتيجية.
لكن مع سلامة هذا التوجه من الجانب النظري المنطقي، إلا أن الممارسات له تظهر تشوها خطيرا في بعض الأحيان، حيث إن كل الممارسات التي وقفت عليها تضع ما يسمى بمؤشرات الأداء كمؤشرات على تحقيق الأهداف، وهذا عندي محل نظر كبير، فكثير من مؤشرات الأداء الرئيسة KPIs تقيس مدى نجاح المؤسسة في نشاط معين، كمثل نشاط الإيرادات أو المبيعات، أو نشاط إنجاز المعاملات، وغيرها، من الأنشطة، ما سبب إرباكا كبيرا في عالم الأعمال حيث أصبح تتبع النمو في الأنشطة يتسبب في إهمال تتبع مدى تحقق الأهداف، وفي هذا أضع مثالا أيضا، فأنت في طريقك نحو الوصول للمحطة التالية لك وهو الهدف، وفي مسار ضبابي تماما قد ترقب أنشطة القيادة، مثل السرعة ومدى نمو التسارع، وقد ترقب الوقود ومدى قدرتك على تخفيض استهلاك الوقود، وقد ترقب المرور وعدم تجاوزك السرعة القانونية وتراقب المارة، فلا تقطع طريق مشاة، لكن وسط كل هذه المراقبة لكل هذه المؤشرات وفي طريق ضبابي تماما قد لا تصل إلى هدفك ويتغير مسارك دون علم، مع أن كل المؤشرات حول أنشطة السيارة ممتازة، هذه هي كارثة مؤشرات الأداء الرئيسة، وهذه هي كارثة مفاهيم الجودة، فأنت في مسارك لتحسين الأعمال قد تشتري أفضل السيارات سرعة أو استهلاكا للوقود وقد تنفق في ذلك الملايين، ومع ذلك فإن قريبا قد يصل قبل من خلال سيارة الأجرة. مفاهيم الجودة والتميز قد تأخذنا بعيدا جدا نحو هدر الموارد وقد لا تحقق الأهداف أبدا، قد تضع أفضل قاعات تدريب وأجمل بيئة عمل وأجمل حائط جداري وأجمل عبارات الرؤية والرسالة وأدق رسومات الخطط الاستراتيجية، ومع ذلك فإن قدرة الطلاب على إعادة إنتاج المعرفة لم تتغير ولم تتحسن، حتى قدرتهم على التعبير عما تعلموه. وفي منشأة عامة خدمية قد تصبح مؤشرات الأداء عبئا كبيرا على الخدمة المقدمة عندما تصبح هي الهم الأساس للموظفين، إذ عليها يتم قياس إنتاجيتهم وعليها تتم قرارات الترقية، لذا تصبح عملية تحقيق أرقام في التحصيل أهم من عدالة التحصيل نفسه، وتحقيق أهداف الموظف في المؤشرات أهم من تحقيق أهداف المنظمة نفسها.
المسألة دقيقة للغاية، وهي تكمن في قلب العمل، في موثوقية الأداء، في قرارات تخصيص الموارد، من السهل أن تحقق الأرقام التي تم تعيينها لك بأي طريقة كانت، لكن ليس كل الطرق تؤدي إلى الهدف، فمثلا عندما تصبح مكافآت المراجعة الداخلية مرهونة بحجم الأخطاء المكتشفة، وعندما يكون مؤشر هدف المراجعة الداخلية هو عدد الأخطاء فتوقع صراعا لا نهائيا في المنظمة، ذلك أن هدف المراجعة الداخلية يتحول إلى عدد الأخطاء بدلا من رفع الثقة بالعمل، وعلى هذا يكمن القياس، ولهذا يشتكي كثيرون إذا أصبحت مؤشرات أداء الأفراد هي الأهداف عندهم، لأن الصراع سيكون سيد الموقف.
- آخر تحديث :
التعليقات